يصنف الاقتصاد المصري على أنه اقتصاد دولة نامية، ووفقاً لترتيب البنك الدولي للدول حسب مستويات الدخل فإن مصر تصنف ضمن الشريحة الدنيا من الدول متوسطة الدخل، إلا أن اقتصاد مصر عانى على مدار السنوات الماضية من مجموعة من المشكلات الاقتصادية، التي رسمت خريطة معقدة، تجمعت فيها التداعيات الاجتماعية من فقر وبطالة وفساد، مع خلل هيكلي في الأداء الاقتصادي تمثل في هشاشة الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة الاعتماد على الخارج.
وتركز العوائد من النقد الأجنبي على المصادر التقليدية الريعية الموروثة منذ سبعينيات القرن العشرين، وهي إيرادات قناة السويس وعوائد البترول والسياحة وتحويلات العاملين بالخارج.
وأتت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 لتمثل أملا للشعب المصري في الخروج من هذا الوضع الاقتصادي المتردي، إلا أن الفترات الانتقالية التي عاشتها مصر بعد الثورة لم تفضي إلى خارطة طريق تسير وفقها الحكومات المتعاقبة، وتعمل في إطارها السياسات الاقتصادية المختلفة، مما أسهم في تراجع العديد من المؤشرات الاقتصادية الكلية مثل معدل النمو الاقتصادي الذي لم يتجاوز 2.6 %، أو انهيار احتياطي مصر من النقد الأجنبي، أو العجز بميزان المدفوعات الذي يقدر له بأن يبلغ أربعة مليارات دولار بنهاية يونيو/حزيران 2013.
وثمة تناول خاطئ في الساحة الإعلامية ويوظف سياسياً بعد أحداث 30 يونيو/حزيران الماضي والتي تم على إثرها عزل محمد مرسي أول رئيس مصري منتخب. ومفاد هذا الخطاب الإعلامي السياسي هو التعويل على حزمة من مساعدات خليجية قدرت بنحو 12 مليار دولار، منها ستة مليارات على شكل ودائع بالبنك المركزي المصري، ونحو ثلاثة مليارات دولار منح لا ترد، وثلاثة مليارات دولار على شكل قروض لتمويل منتجات بترولية.
"
مما يثير الاستغراب في الخطاب السياسي الإعلامي في مصر تجاه المساعدات الخليجية أنه كان يستهجن لجوء حكومة هشام قنديل قبل 30 يونيو/حزيران الماضي إلى المساعدات العربية، غير أن الموقف تغير بعد عزل محمد مرسي
"
وإذا ما نظرنا إلى نسبة هذه المساعدات إلى الناتج المحلي الإجمالي لمصر والمقدر بالأسعار الجارية بنحو 300 مليار دولار، نجد أن هذه المساعدات لا تتجاوز نسبة 4%. ومما يثير الاستغراب في هذا الخطاب السياسي تجاه المساعدات الخليجية أنه كان يستهجن لجوء حكومة رئيس الوزراء السابق هشام قنديل قبل 30 يونيو/حزيران الماضي إلى المساعدات العربية، وبخاصة تلك التي قدمتها دولة قطر، وكانوا يعدون هذه المساعدات نوعا من التدخل في الشأن السيادي المصري أو الامتهان لكرامة البلاد.
فما الذي تغير قبل وبعد 30 يونيو/حزيران 2013، فالمساعدات من قطر وليبيا لا تختلف عن المساعدات من السعودية والإمارات والكويت، فلماذا الكيل بمكيلين لدى أصحاب الخطاب السياسي والإعلامي الذي أصبح ذائع الصيت الآن في مصر؟
فهل يمكن الاعتماد على هذه المساعدات التي وعدت بها دول خليجية مصر لكي تخرجها من أزمتها الاقتصادية، سواء على مستوى الاقتصاد القومي بمكونيه القطاع العام والخاص، أو على مستوى الاقتصاد الحكومي المتمثل في الموازنة العامة التي تعاني من عجز مزمن وصل إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي.
لمصر تاريخ ممتد في تلقي المساعدات الخارجية، فعلى مدار الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات من القرن الماضي كانت مصر تتلقى مساعدات أوروبية وأميركية، ومع بدء التوجه السياسي المصري المخالف لأوروبا وأميركا أوقفت هذه المساعدات واستبدلت بمساعدات روسية وعربية إبان هزيمة 1967، وظلت المساعدات العربية تمثل عصب المساعدات المقدمة لمصر حتى منتصف السبعينيات، وتغير الوضع بعد توقيع مصر اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني برعاية أميركية غربية.
بعدها تراجعت المساعدات العربية لتحل محلها المعونة الأميركية والتي قدرت بنحو 36 مليار دولار منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى العام 2006. وبعد ثورة 25 يناير 2011 أعلن عن حجم كبير من المساعدات الغربية للقاهرة في إطار ما سمى اتفاق "دوفيل"، ولكن هذه المساعدات كانت مشروطة بوجود مؤسسات منتخبة والتأسيس لحكم ديمقراطي في مصر، وهو الأمر الذي لم يتحقق بعد، بسبب عدم الاستقرار السياسي وأحداث 30 يونيو/حزيران الماضي.
وتمثل حزمة المساعدات الخليجية التي أعلن عنها على وجه السرعة عقب أحداث 30 يونيو/حزيران الماضي قرابة 50% فقط من الفجوة التمويلية لمصر، والتي تقدر بنحو 20 مليار دولار، وبالتالي فهي سوف تساعد فقط في توفير أو تسيير بعض الاحتياجات اليومية للشارع المصري مثل الوقود والخبز.
غير أن هذه المساعدات لن تنفع في التصدي للمشكلات الاقتصادية، وبخاصة إذا كانت بهذا الحجم من الصغر مقارنة بالمتطلبات المالية للإصلاح الاقتصادي في مصر.
"
من غير المنطقي القول إن مصر لا تحتاج إلى مساعدات خارجية، سواء من الدول الغربية أو العربية، فكل تجارب التنمية تشير إلى لجوء الدول إلى هذه المساعدات في بناء تجاربها التنموية
"
من غير المنطقي القول إن مصر لا تحتاج إلى مساعدات خارجية، سواء من الدول الغربية أو العربية، فكل تجارب التنمية تشير إلى لجوء الدول إلى هذه المساعدات في بناء تجاربها التنموية، ولعل النموذج الهندي والصيني والبرازيلي خير مثال، فقد كان لهذه الدول مشكلات تتعلق بالجوع والفقر، وظلت لفترات طويلة تتلقى المساعدات الخارجية.
ولكن هذه المعونات الخارجية كانت مندرجة ضمن البرامج الإصلاحية لهذه البلدان، والتي استهدفت الاعتماد على الذات وحسن توظيف مواردها الاقتصادية، ما مكنها بعد ذلك من تحقيق النجاح الاقتصادي والاستغناء عن جزء كبير من هذه المساعدات.
وتحتاج مصر في خلال هذه المرحلة التاريخية الفاصلة إلى مجموعة من المحاور التي تمثل خارطة طريق للخروج من مشكلاتها الاقتصادية، وإلا ستظل في دوامة القروض والمساعدات الخارجية لفترات طويلة مع استمرار وتفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية.
وقد تصبح مصر على هامش الأحداث إقليمياً ودولياً إذا استمرت في أزمتها الاقتصادية الحالية، وتتمثل هذه المحاور التي من شأنها أن تخرج مصر من مشكلاتها الاقتصادية فيما يلي: أولا تحقيق استقرار سياسي وأمني لأن "رأس المال جبان"، وهي مقولة مسلم بها يتعلمها طلاب السنوات الأولى في مجالي الاقتصاد والسياسة، فلا يأمن المستثمر المحلي أو الأجنبي على ماله في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني.
ولذلك لا بد أن تسارع مصر إلى تثبيت أركان حكم ديمقراطي قائم على التداول السلمي للسلطة، وإعمال دولة القانون، والعمل على أن تقليص مدة الفترة الانتقالية إلى أقصى الحدود.
وثانيا ضرورة وجود رؤية اقتصادية، فحتى هذه اللحظة لم تعلن حكومة حازم الببلاوي التي أتت بعد أحداث 30 يونيو/حزيران الماضي عن برنامجها الاقتصادي وكيفية التعامل مع المشكلات الاقتصادية لمصر، سواء على مستوى الأجل القصير أو المتوسط والطويل.
ففي الأيام الأولى لهذه الحكومة اختلفت وجهتا نظر وزيري التخطيط والمالية حيال التعامل مع قرض صندوق النقد الدولي. فالأول يرى تأجيل ملف التفاوض مع الصندوق والثاني يرى أن قرض الصندوق جزء من حل المشكلة الاقتصادية في مصر.
ثالثا الاعتماد على الذات: لم تسجل تجارب التنمية نجاح دولة ما في إقامة نهضتها من خلال تلقيها للمساعدات الخارجية، ولكن كان الاعتماد على الذات وتوظيف الموارد المالية والطبيعية والبشرية هو مفتاح نجاح تجارب التنمية في كل الحالات، ومصر لديها مصادر يمكن الاعتماد عليها كبديل للاعتماد على الخارج سواء من خلال الاقتراض أو المساعدات، تتمثل في القطاع الخاص غير الرسمي، والذي تقدر مساهمته بنحو 30% من الناتج المحلي الإجمالي.
القطاع الخاص غير الرسمي بمصر يتخبط في عدة مشكلات، ولو تم تجاوزها لزادت قيمته المضافة بشكل كبير، وتخففت الحكومة من العديد من الأعباء في مجال التوظيف وتوفير السلع والخدمات
"
ويعاني هذه القطاع غير الرسمي من العديد من المشكلات لو تم تجاوزها لزادت قيمته المضافة بشكل كبير، وتخففت الحكومة من العديد من الأعباء في مجال التوظيف وتوفير السلع والخدمات. ولا يعني هذا الحديث إهمال الحكومة لإصلاح قطاع الأعمال العام ومواجهة فساد الإدارة الحكومية.
رابعاً وضع أجندة وطنية للمساعدات: العديد من المساعدات تُقر جهات مانحة وفق أجندتها، وليس حسب ترتيب أولويات التنمية البشرية والاقتصادية في مصر، ولذلك لا بد أن تضع القاهرة أجندة يمكن من خلالها ترتيب الأولويات لتوظيف المساعدات لتصب في اتجاه سد العجز في مجالات التعليم والصحة والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.
وسبق للجهاز المركزي للمحاسبات في مصر أن ذكر لعدة مرات في تقاريره أن المنح والمعونات لم يُستفد منها وبقيت اتفاقياتها وأموالها معطلة، مما أدى إلى استرجاعها مرة أخرى من لدن الدول المانحة.
خامساً المصارحة العامة: منذ اللحظات الأولى لنجاح ثورة 25 يناير كان سقف تطلعات المصريين مرتفعا جدا، غير أنه لم يتم إطلاعهم على حقيقة المعضلات المالية والاقتصادية الموروثة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وثمة ثمن لا بد أن يدفعه الشعب المصري نظير الإصلاح الاقتصادي في قضايا دعم الأسعار والضرائب، ودون وجود هذه المصارحة وعلاج يتحمل ثمنه الجميع ستكون الحلول المطروحة وطرق العلاج للمشكلات الاقتصادية لمصر مجرد مسكنات ما تلبث أن ينتهي مفعولها حتى تظهر تداعياتها السلبية من جديد.
إن علاج مشكلات مصر الاقتصادية معروف لدى الكثير من الاقتصاديين، ولكن الثمن السياسي المترتب عليه يحول دون الدفع به لما يترتب عليه من خسارة لدى الرأي العام السياسي.