تعاني مصر من غياب ملحوظ في إطار العدالة الاجتماعية، وقد أشار بيان صحافي للبنك الدولي في نهاية إبريل 2019 إلى أن عدم المساواة بمصر في تزايد كبير.
ومؤخرًا نشر موقع رئاسة الوزراء بمصر خبرًا حول متابعة أعمال رئيس الوزراء لأعمال العاصمة الإدارية الجديدة جاء فيه "مؤكداً أنه تم تنفيذ توجيهات رئيس مجلس الوزراء بشأن طرح تلك الوحدات، وتقديم تيسيرات للموظفين، تشمل عدم تسعير ثمن الأرض ضمن سعر الوحدة، وذلك تحفيزاً للموظفين على الانتقال للسكن بالعاصمة الإدارية الجديدة"، وذلك في إشارة إلى تنفيذ 10 آلاف وحدة سكنية بمدينة بدر لموظفي العاصمة الإدارية الجديدة.
وقد ينظر البعض إلى الأمر على أنه شيء إيجابي، لكن المناخ الاقتصادي والاجتماعي في مصر لا يحتمل هذا التمييز، لصالح موظفي العاصمة الجديدة على حساب باقي موظفي الدولة البالغ عددهم نحو 5.75 ملايين موظف.
وتصرف الحكومة بهذه الصورة يكرس لعدم العدالة الاجتماعية، من حيث إن موظفي العاصمة الإدارية يحصلون على ميزة دون غيرهم من العاملين بالحكومة، فضلاً عن باقي أفراد المجتمع الذين يعانون من مشكلة إسكان خانقة.
والمعلوم أن هيكل الأجور بمصر يعد من المشكلات المزمنة، والتي لم تقترب منها السياسات الاقتصادية بأي حال من الأحوال، لكي تبقى بابًا للفساد والمحسوبية، فمخصصات المرتبات والأجور بموازنة 2019 /2020 تبلغ نحو 301 مليار جنيه مصري، منها حوالي 90 مليار جنيه مرتبات أساسية، وباقي المبلغ مكافآت وبدلات، أي أن المرتبات الأساسية بحدود نسبة 30% فقط، بينما 70% عبارة عن مكافآت وبدلات، ليحدث نوع من التميز غير المبرر بين العاملين بالحكومة.
فثمة قطاعات في مصر تحصل على رواتب متميزة، مثل العاملين بقطاع البترول أو البنوك، أو الجمارك أو الضرائب، أو القضاء أو الخارجية، بينما العاملون في الإدارة المحلية أو الصحة مثلًا يحصلون على رواتب شديدة التواضع، مما يدفعهم للحصول على الرشاوي، أو العزوف عن العمل بالقطاع الحكومي.
ثمة فئات أخرى من العاملين بالدولة تستأهل هذا التميز ولا تجده، مثل الأطباء والمدرسين الذين يعينون بالريف والمناطق النائية، ولا يجدون مثل هذه المزايا، ولو توفرت لهم هذه الفرصة، لما فكروا في الامتناع عن الذهاب للريف والمناطق النائية، بل قد تكون بالفعل محفزًا لهم للبقاء والاستقرار بالريف والمناطق النائية، مما يؤدي إلى تحسين الخدمات في قطاعي التعليم والصحة بهذه المناطق المحرومة.
وفق التصريح المشار إليه، فإن سعر الوحدة السكانية للعاملين بالعاصمة الجديدة لن يتضمن سعر الأرض، والمعلوم أن سعر الأرض يمثل نحو 33% من ثمن الوحدة السكانية، فإذا كان ثمن الوحدة بحدود 750 ألف جنيه، فمعنى ذلك أن موازنة الدولة سوف تتحمل قرابة 250 ألف جنيه عن كل وحدة سكنية، وبلا شك سوف تدرج هذه المبالغ إما تحت بند مزايا عينية أو تحت بند دعم الإسكان الاجتماعي، ثم تدعي الحكومة بعد ذلك أن تكاليف إنشاء العاصمة الجديدة من خارج الموازنة العامة للدولة.
وإقدام الحكومة على هذه الخطوة، يعد مخالفة للسياسات المتبعة بمصر منذ انقلاب 3 يوليو 2013، حيث تم تحريك أسعار غالبية السلع والخدمات التي تقدمها الحكومة، ومن هنا ارتفعت نسبة الفقر حتى وصلت لقرابة 60% من المجتمع حسب أرقام البنك الدولي.
وإذا كانت الحكومة تضع في برنامجها تحرير أسعار الوقود بنهاية عام 2019، ورفعت أسعار المياه والغاز الطبيعي والكهرباء، وكافة الخدمات الحكومية في السجل المدنية والشهر العقاري والمرور، وغيرها من الخدمات، فلماذا تقدم هذا الدعم السخي لموظفي العاصمة الإدارية الجديدة؟
الأمر يتطلب أن تمارس الجهات الرقابية دورها، سواء من قبل مجلس النواب، أو الجهاز المركزي للمحاسبات، من أين سيتم تمويل تكلفة الأرض الخاصة بالوحدات السكانية لموظفي العاصمة الإدارية الجديدة، قد يكون الأمر صعباً في ظل سيطرة السيسي على مقدرات مجلس النواب والجهاز المركزي للمحاسبات، ولكن يبقى دور المجتمع المدني في كشف أداء الحكومة تجاه المال العام، وسوء تخصيص الموارد العامة، في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
إن قائد الانقلاب العسكري في تبريره لرفع الدعم عن سلع أساسية، قال "مفيش حاجة بلاش"، فلماذا التضييق على الناس، بينما هذه العاصمة التي تفتقد لكثير من مقومات وجودها يتم الإنفاق عليها ببذخ؟
فمصر ليست تلك المدينة التي لا تزيد مساحتها عن 40 كيلومتراً مربعاً، مصر هي شعب يصل عدد سكانه إلى نحو 105 ملايين نسمة، يعانون من توفير الاحتياجات الأساسية، وتزيد بينهما نسب ما يعرف بالفقر متعدد الأبعاد، أي فقر الدخل مقرونًا بفقر في التعليم والصحة.
نرحب بهذا الدعم لكن في إطار من العدالة الاجتماعية، خاصة أن معضلة الإسكان تحول دون إقدام الشباب على الزواج وتكوين أسر جديدة، وتمثل عائقًا أمام الأسر في ترتيب أوضاعها المالية، في ظل قلة الدخول وارتفاع تكاليف الوحدة السكانية.
اللافتة المرفوعة لدعم الوحدات السكانية لموظفي العاصمة الجديدة تشجعهم على الإقامة بها، لقد خاضت مصر تجارب مماثلة في المدن الجديدة وفي مؤسسات اقتصادية مثل الهيئة العامة للاستثمار، أو الهيئة العامة للسياحة، فتم منح العاملين بهذه الهيئات رواتب متميزة وفق ما يسمى الكادر الخاص، ومع الوقت تحولت هذه الهيئات إلى أماكن لتوظيف لأصحاب الحظوة.. بينما بقي أداؤها مثل باقي الإدارات والهيئات الحكومية، ولم يرى المجتمع أو الاقتصاد المصري أثرًا ملموسًا لتميز هذه الهيئات.
وخطوة دعم تلك الوحدات السكانية لموظفي العاصمة الجديدة لا تخرج عن إهدار الموارد الذي يتبدى بوضوح في مشروع العاصمة برمته، فمصر لم تكن في حاجة لهذه العاصمة، لعدة أسباب، منها أنه يتم إنشاؤها عبر القروض ومنح سخية للمستثمرين والمقرضين الأجانب على حساب الأوضاع الاقتصادية للبلاد، مصر كانت بحاجة لاستثمارات في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، وليس إلى أبراج ناطحات السحاب.
كما أن وضع الدين العام، يفرض وجود ترشيد شديد في الإنفاق الحكومي، وإعادة تخصيص الموارد بشكل يتسم بالكفاءة، وبعيدًا عن الإسراف، وتنفيذ مشروعات كبيرة تتكلف مليارات الدولارات بدون دراسات جدوى.
لو كان في مصر إصلاح اقتصادي حقيقي، لكن بند الأجور والمرتبات أول ما يناله هذا الإصلاح، ليس من قبيل تخفيض عدد العاملين بالحكومة والقطاع العام فقط، لكن من خلال هيكل الأجور، وسد أبواب الفساد في البنود الفرعية في الباب الأول بالموازنة، من مكافآت ومزايا عينية.
فيكون هناك راتب واحد للوظيفة الواحدة بكافة أجهزة الدولة، بغض النظر عن القطاع الذي يتيح هذه الوظيفة، ويكون الراتب الأساسي هو الأصل، وتصرف المكافآت لأصحاب الأداء المتميز، وليس لكل من يعمل بالحكومة بغض النظر عن أدائه.
إن العدالة الاجتماعية تتضمن ثلاثة محاور رئيسة، هي لإتاحة الفرص لجميع أفراد المجتمع دون تميز، والتمكين من الحصول عليها، واستدامة الإتاحة والتمكين. لكن يلاحظ أن حكومة السيسي ما زالت ترى أن مصر لا بد أن تكون في حالة من الإهمال على كافة المستويات، باستثناء فئات قليلة، يكون لها حظها الوافر من التعليم والصحة والسكن والعمل، وفي مقدمة هؤلاء من ستكون لهم الحظوة بالانضواء تحت لواء العاصمة الإدارية الجديدة.