صدّق مجلس النواب في مصر على قرار الرئيس عبد الفتاح السيسي تجديد ولاية طارق عامر محافظا للبنك المركزي، وهو الجهة الوحيدة المسؤولة عن وضع السياسة النقدية ومراقبة وتوجيه ما يترتب عليها من آثار اقتصادية.
وإن كانت تبدو قضية معقدة من الناحية الفنية، إلا أن المواطن المصري لمس أثرها بشكل مباشر مع قرارات تحرير سعر صرف الجنيه، حيث انخفضت ثروات الناس بمعدل 50%، كما قفزت الأسعار بمعدلات جنونية حتى وصل معدل التضخم إلى 34% في يوليو/تموز 2017.
وتتجسد السلبية القاتلة فيما سمي "برنامج الإصلاح الاقتصادي بمصر" لاتفاقية صندوق النقد الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في أن البنك المركزي ومن خلال آليات السياسة النقدية (سعر الفائدة ومعدل التضخم وسعر الصرف) قاد السياسة الاقتصادية دون وجود تنسيق بين مكوناتها، مما أوجد آثارا سلبية على الاستثمار والصادرات السلعية بالتبعية، كما عمّق من حالة الركود التي لا يزال يعاني منها الاقتصاد المصري.
في إطار سعي عامر لزيادة المعروض من النقد الأجنبي لتحقيق استقرار في سعر الصرف، لجأ إلى آلية استثمار الأجانب في الدين الحكومي من خلال أذون وسندات الديون الحكومية المحلية، وهي آلية قديمة لجأ إليها محافظ البنك المركزي الأسبق فاروق العقدة إبان عهد مبارك، وكانت إحدى أدوات الضغط على سعر صرف الجنيه بعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بسبب خروج هذه الأموال من السوق المصري.
وعادة هذه الأموال لا تأتي لميزة في الاقتصاد الذي يستجلبها، لكنها تبحث عن سعر الفائدة المرتفع، وتكون استثماراتها في الأجل القصير حتى تتمكن من الخروج في أسرع وقت إذا ما وجدت سعر فائدة أعلى في سوق آخر.
وفي حالة مصر كانت استثمارات الأجانب في أذون الخزانة 532 مليون جنيه مصري فقط (33 مليون دولار) في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وقفزت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 إلى 330 مليار جنيه لأمرين، الأول تخفيض قيمة الجنيه المصري نتيجة سياسة تحرير سعر الصرف، والثاني ارتفاع سعر الفائدة على أذون الخزانة المصرية الذي اقترب من 20% في ذلك التوقيت، ومن هنا فالمستثمرون الأجانب مستفيدون من الحالتين.
وخطورة هذه السياسة أنها تجعل سعر الصرف عرضة لتقلبات في يد خارجية، وهم المستثمرون الأجانب، وليس نتيجة عوامل ذاتية يمكن إدارتها من قبل البنك المركزي، والأمر الثاني أن جزءا كبيرا من هذه الأموال بمثابة غسل أموال، فهي تأتي في شكل مساهمات لصناديق استثمار أجنبية، سواء في أوروبا أو في مناطق "الأوفشور".
وبذلك فما تحقق من تحسين لقيمة الجنيه في عام 2019 لم يكن نتيجة تحسن ذاتي بقدر ما كان ثمرة مرة للأموال الساخنة، التي كلفت الحكومة أسعار فائدة عالية تحملتها الموازنة العامة للدولة.
كانت سياسة تخفيض سعر الصرف في نهاية 2016 سببا في إلحاق الضرر بثروات الأفراد، وبخاصة المدخرات النقدية بالجنيه المصري، فبين عشية وضحاها فقد المدخرون 50% من القيمة الحقيقية لمدخراتهم، رغم سياسة رفع سعر الفائدة فيما بعد، وألقى ذلك بظلاله السلبية على باقي أنشطة الاقتصاد المصري.
فعلى سبيل المثال، حاول أصحاب العقارات، وبخاصة الشركات التي تستثمر في هذا القطاع، تعويض خسائرهم برفع سعر العقارات لكنهم لا يستطيعون رفع الأسعار بمعدل 50%، مما أوجد حالة من الركود في هذا القطاع لا يزال يعاني منها إلى الآن.
اتجهت السياسة النقدية التي تبناها البنك المركزي في ولاية عامر الأولى لرفع سعر الفائدة حتى اقتربت من سقف 20% سنويا، لتحقيق نتائج عدة، أولاها السيطرة على معدلات التضخم من خلال سحب السيولة من السوق لتخفيض حدة الطلب، وكذلك تشجيع المدخرين على عدم سحب ودائعهم بعد تخفيض قيمة الجنيه المصري.
بيد أن هذه السياسة كبلت قطاع الاستثمار من جهة حيث ارتفعت تكلفة التمويل بجوار ارتفاع تكلفة الطاقة ومستلزمات الإنتاج. ومن جهة أخرى أدت إلى رفع تكلفة اقتراض الحكومة من الجهاز المصري.
منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 والبنك المركزي المصري لا يتأخر عن اليوم الأول من كل شهر ليعلن وجود تحسن في احتياطي النقد الأجنبي، الذي بلغ 45.2 مليار دولار نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2019، وذلك على عكس ما يفعله البنك المركزي فيما يتعلق بالإعلان عن الديون المحلية أو الأجنبية، حيث تأتي في العادة متأخرة ستة أشهر، وفي أحسن تقدير ثلاثة أشهر، بما يظهرها على غير حقيقتها.
والمتابع لكافة الديون التي حصلت عليها مصر، وبخاصة التي أتت عبر سوق السندات الدولية، يرى أن جزءا مهما منها يستخدم في دعم احتياطي النقد الأجنبي، والشيء نفسه تكرر في القروض والودائع التي قدمتها الدول الخليجية لمصر بعد الانقلاب العسكري.
نتيجة السياسات النقدية التي استهدفت تخفيض قيمة الجنيه المصري ورفع سعر الفائدة، ارتفعت معدلات التضخم بشكل غير مسبوق حتى وصلت 34% في يوليو/تموز 2017، ثم استمرت في معدلاتها المرتفعة بقية العام 2017، ثم اتجهت للانخفاض حتى وصلت 4.7% في سبتمبر/أيلول 2019.
وهذا الانخفاض الكبير لم يكن نتيجة تحسن القاعدة الإنتاجية بمصر، إنما نتيجة لانخفاض الطلب بسبب تدهور دخول الأفراد وزيادة معدلات الركود، وكذلك تلاعب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بتغيير سنة الأساس التي يتم عليها تقويم معدلات التضخم.
لم تكن السياسة النقدية لطارق عامر التي اتبعها البنك المركزي المصري ناجعة لإخراج الاقتصاد المصري من أزمته، لكنه أخذ على عاتقه تنفيذ أجندة صندوق النقد الدولي، فكان الهم الأكبر هو تحقيق إظهار تحسن في المؤشرات المالية والنقدية بغض النظر عن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية التي تعود بالسلب على المجتمع المصري.
ولعل ما أعلن أخيرا من ترتيب مصر لملفاتها للدخول لمفاوضات جديدة مع صندوق النقد لاتفاق جديد بنهاية 2019، يعد دليلا على عدم نجاعة السياسة النقدية للبنك المركزي المصري، التي كانت أهم سماتها السلبية أيضا عدم التنسيق مع مكونات السياسة الاقتصادية الأخرى.
بعد ثلاث سنوات عجاف على المجتمع المصري، لم تؤد سياسات طارق عامر إلى تحسين دخول الأفراد، بل زادتهم فقرا، ولم تؤد كذلك إلى استغناء مصر عن الخارج، بل زادت فاتورة الواردات