عندما يذكر الباحث أو المعني بالأمور الاقتصادية في مصر، أن مصدر بياناته البنك المركزي المصري، تكتسب هذه البيانات مصداقية عالية، وتمثل استشهادا لا يرد، ولكن على ما يبدو أن الأمر أصبح محل شك في ظل البيانات الصادرة عن تلك المؤسسة العريقة.
فقد لوحظ من خلال الاطلاع على النشرة الإحصائية الدورية التي تصدر كل شهر، وينتظرها الكثير من المعنيين بالشأن الاقتصادي، بأن بها لبساً يحتاج إلى توضيح، أو خطأ في منهجية العرض، فيما يخص تطور عدد السكان الإجمالي خلال الفترة 2010 – 2012. وكذلك عدم منطقية تطور العدد الإجمالي للسكان خلال الفترة من 2013 - 2016.
وإذا كنا نتشكك في بعض البيانات الأخرى التي يصدرها البنك، وبخاصة تلك التي تظهر معدلات التضخم على سبيل المثال، بسبب المساحة المرنة التي تحتسب على أساسها معدلات التضخم، في ضوء سلة السلع والخدمات. فإننا على يقين من الخطأ الحادث فيما يتعلق بعرض بيانات العدد الإجمالي للسكان في مصر خلال الفترة 2010 – 2012.
فتطور عدد السكان بالمجتمع يمثل أحد أهم المؤشرات التي تبنى عليها القرارات الاقتصادية، سواء بالنسبة للحكومة أو القطاع الخاص، ولذلك يجب أن يتم تحري الدقة في عرض البيانات، وبخاصة إذا كانت من جهة مثل البنك المركزي، فقد لوحظ من خلال البيانات التي تضمنتها النشرة الإحصائية لشهر أكتوبر/ تشرين الأول 2018، عدم منطقية البيانات المعروضة بالنشرة عن تطور عدد السكان، الوارد بالجدول 39، ص 117 و118.
فقد تم عرض بيانات إجمالي عدد سكان الجمهورية أول يوليو/تموز من أعوام 2010 و2011 و2012، على أنها ثابتة عند 87.8 مليون نسمة، ودُون أسفل الجدول ملاحظة نصها "تم تقدير عدد السكان باستخدام أسلوب الزيادة الطبيعية والنتائج النهائية لتعداد عام 2006 كسنة أساس"، كما أشارت النشرة إلى أن مصدر هذه المعلومات الخاصة بالسكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وبالرجوع إلى الكتاب الإحصائي السنوي لعام 2018، والصادر عن جهاز الإحصاء، وجد أن عدد السكان بالسنوات الثلاث المذكورة على التوالي هو 78.6 مليون نسمة، و80.5 مليون نسمة، و82.5 مليون نسمة، وذلك حسبما ورد بالجدول رقم 2/3 الخاص بـ "تقدير عدد السكان طبقًا للحضر والريف وتوزيعهم النسبي في منتصف الأعوام 1990 – 2017".
وهي الأرقام التي تتطابق مع ما أوردته نشرة البنك المركزي فيما يخص السكان المقيمين بمصر، ودون حساب المصريين بالخارج، ولكن في ظل حركة التغير في كل من السكان المقيمين بمصر، وكذلك المصريين بالخارج، أن يظل عدد السكان الإجمالي ثابتًا عند 87.8 مليون نسمة؟
ومن باب التأكيد على أن الأمر لم يكن خطأ مطبعيًا، تم الرجوع لنشرة سبتمبر/ أيلول 2018، ووجد نفس البيانات وبنفس الجدول، وهو ما يعني أن هناك خطأ في المنهجية أو طريقة الحساب.
وما يثير الشك بنسبة كبيرة في وجود خطأ في عرض البيانات، أو منهجية تكوينها، أن إجمالي عدد السكان بالداخل خلال الفترة من 2010 – 2012، لم يتغير إلا بمقدار التراجع في المصريين بالخارج.
فإجمالي عدد السكان ارتفع من 78.7 مليون نسمة في 2010 إلى 80.5 مليون نسمة في 2011، وذلك نتيجة لتراجع عدد المصريين بالخارج من 9.1 مليون نسمة في 2010، إلى 7.3 مليون نسمة في 2011.
وهكذا العلاقة بين تطور عدد السكان بين عامي 2011 و2012، وكأن عدد السكان بالداخل ثابت ولم يشهد مواليد جددا، في حين أن نفس الجدول يعرض معدلات الزيادة في المواليد، وكذلك معدلات الوفيات، دون وجود ما يدل على ارتفاع غير عادي في الوفيات، أو تراجع غير عادي في معدلات المواليد.
فهل مصدر الزيادة في عدد سكان مصر المقيمين بالداخل، هو فقدان عودة المهاجرين المصريين بالخارج؟ وأن الزيادة السكانية خلال هذه السنوات الثلاث كانت صفراً!
وبالرجوع لقاعدة بيانات البنك الدولي وجد أن عدد السكان الإجمالي لمصر، خلال السنوات 2010 و2011 و2012 على التولي هو 84.1 مليون نسمة، و85.8 مليون نسمة، 87.8 مليون نسمة، وهي تتضمن السكان بالداخل والمصريين بالخارج.
تساؤلات مشروعة
هل توقف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن إنتاج المعلومات والبيانات الخاصة بالسكان خلال الفترة 2010 – 2012؟
غير صحيح، فكتاب الإحصاء السنوي يتضمن بيانات تفصيلية عن تطور عدد السكان خلال هذه الفترة، من حيث النوع والجهة والسن، وكافة البيانات التي تخص الخصائص السكانية.
هل أرتأى القائمون على أمر نشرة البنك المركزي تثبيت عدد سكان مصر خلال هذه السنوات، لاعتبارات علمية أو أمور تخص الأمن القومي، كما يدعي البعض؟
بلا شك ليست هناك ضرورة علمية تقتضي تثبيت بيانات مهمة تخص السكان، لضرورتها المهمة في اعتبارات الحياة الاقتصادية.
كما أن الأمن القومي لم يمنع أكبر جهاز للبيانات والمعلومات في مصر من أن يعلن هذه الأرقام في غير موضع، كما أن قاعدة بيانات البنك الدولي أظهرت هذه البيانات وغيرها عن السكان في مصر، وبيانات قاعدة البنك الدولي مستمدة من الحكومة المصرية.
ومما يلفت الانتباه كذلك أن بيانات السكان كعدد إجمالي في أعوام 2013 و2014 و2015 تتزايد بما يشبه المتوالية العددية، حيث بلغ عدد السكان وفق بياني نشرة البنك المركزي 9.6 مليون نسمة، و93.6 مليون نسمة، و96.4 مليون نسمة.
أي أن عدد السكان يزيد بنحو 3 مليون نسمة تقريبًا، وهو ما يتعارض مع معدل الزيادة السكانية المتحقق بمصر خلال هذه السنوات، والمنشور بالتقرير المالي الشهري لوزارة المالية المصرية، ص 2، حيث بلغ معدل الزيادة السكانية السنوي لهذه السنوات 2.8%، و2.4%، و2.6%، على التوالي، والحساب بمجرد النظر يستحيل أن تكون الزيادة السكانية بهذا الانتظام والأرقام المدونة في نشرة البنك المركزي.
مطلوب تفسير
من غير المنطقي أن تبقى هذه البيانات على ما هي عليه، دون تصحيح أو توضيح، فالبنك المركزي عبر إصداراته المختلفة، محل ثقة جل المتعاملين مع البيانات، سواء من الباحثين أو المستثمرين أو متخذي القرار أو الصحافيين.
وحري بالبنك المركزي أن ينقل بيانات السكان كما هي من الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، دون اجتهاد في ترتيبها، أو استنتاج من بين معطياتها، فما تضمنته النشرة الإحصائية في أكتوبر وسبتمبر 2018، يفتح الباب للطعن في مصداقية بيانات البنك المركزي.
وإذا كان ذلك فيما يخص بيانات جهات أخرى، فما بالنا بالبيانات التي ينتجها البنك المركزي نفسه؟
إن عرص البيانات الخاصة بالسكان بهذه الطريقة التي تضمنتها النشرة الاقتصادية، لا يبرره إظهارها وفق السنة المالية أو الميلادية.
هل نطلب من البنك المركزي أن تقتصر بيانات إصداراته على ما يخص سلطته النقدية، وممارسته تجاه الجهاز المصرفي؟ وعلى أن يترك لباقي أجهزة الدولة الخاصة بالجوانب الاقتصادية المختلفة التعبير عن نفسها وإظهار بياناتها عبر إصداراتها.
وعلى ما يبدو فإن كل شيء، قد هان أمره في ظل سيطرة العسكر على مقدرات الحكم في مصر، حيث أسندت الأمور لغير أهلها، وبخاصة إذا كانت مؤسسة بحجم البنك المركزي المصري، والذي مثل صرحًا علميًا على مدار عقود مضت، تخرج منه خبراء اقتصاديون، بل ووزراء مالية لمصر، وأساتذة اقتصاد بالجامعات المصرية وغيرها من الجامعات العربية.