على مدار السنوات السبع الماضية، شهدت مصر تسارع في معدلات الكوارث التي تنال من المرافق العامة والمنشآت الخاصة، فكانت حوادث تصادم القطارات، أو اشتعال النيران بها، أو انقلابها وخروجها عن مسارها الطبيعي. كما تعد حوادث الطرق فيها واحدةً من أعلى النسب عالميا.
ففي عام 2018، بلغ عدد حوادث الطرق 8500 حادثة، بنسبة وفاة بلغت 9 أفراد لكل 100 ألف، وذلك بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء. ورغم استمرار الظاهرة خلال السنوات الماضية، فإن الحكومة لم تضع إستراتيجية للقضاء عليها أو لتخفيض عدد الحوادث، للمحافظة على أرواح الناس.
كما تعددت الحرائق في العديد من المصانع والشركات، وظلت النيران مشتعلة في أحد الأبراج على الطريق الدائري لمدة 3 أيام، مما أدى إلى عدم صلاحية المبني فيما بعد، فقامت الحكومة بهدمه بالديناميت.
وثمة أسباب متعددة وراء ظاهرة الحوادث الكارثية في المرافق والمنشآت بسبب التخبط الاقتصادي وسوء الإدارة، ولكن الملاحظ بشكل كبير أن ثمة إهمالا كبيرا فيما يتعلق بالإنفاق على صيانة المرافق العامة، سواء كانت مرافق تخص النقل، أو الحماية من الحرائق، أو خدمة الطرق وصيانتها.
ومنذ الثلاثاء الموافق 23 مارس/آذار الجاري، وقعت حادثتان مؤثرتان على مقدرات الأمن والاقتصاد القوميين. وهما حادث سفينة الشحن العملاقة في قناة السويس، وعجز الإدارة في التعامل معها. وأعقبها تصادم قطارين في مدينة طهطا بمحافظة سوهاج مما أسفر -حسب البيانات الأولية- عن سقوط 32 قتيلا ونحو 66 جريحا.
وجددت الحادثتان الذكريات القريبة والبعيدة لسوء الأداء الحكومي، بإدارة المرافق العامة وصيانتها، أو إهمال في خدمات إطفاء الحرائق وصيانة الطرق، وذلك رغم سلوك الحكومة على مى السنوات السبع الماضية برفع معدلات الضرائب، بنسبة تزيد على 300%.
فلسفة فرض الضرائب أن تعود بالنفع العام على المجتمع، وليس تلبية رغبات أو نزوات الحاكم، أو السلطة. وإذا اتجهت السلطة لفرض المزيد من الضرائب خلال فترة معينة، ووجد المجتمع بعد ذلك تراجعا في كفاءات المؤسسات العامة، فلا نحتاج إلى استنتاج لمعرفة أن الأمور تدار بمعرفة سلطة استبدادية، لأن المجتمعات الديمقراطية لا تسمح بغياب الرقابة والمحاسبة.
ومن خلال بيانات التقرير المالي لوزارة المالية ليناير/كانون الثاني عامي 2017 و2021، تبين أن الضرائب بلغت قيمتها عام 2010/2011 نحو 192 مليار جنيه فقط، في حين تقدر موازنة عام 2020/2021 الإيرادات الضريبية المستهدفة بنحو 964، مما يعني أن الضرائب تضاعفت 5 مرات خلال عامي 2010/2011-2020/2021.
ومع ذلك، يلاحظ وجود تراجع كبير في كفاءة الخدمات العامة، رغم أنه منذ يوليو/تموز 2014، تم رفع الرسوم الحكومية على كافة الخدمات الحكومية، بنسب تتجاوز 300%.
الأصول الرأسمالية تتراكم منذ نشأة الدولة الحديثة في عهد محمد علي، وثمة استثمارات كبيرة تم ضخها على مدار عقود، ويستلزم الأمر إجراء أعمال الصيانة، حتى تستطيع هذه المؤسسات تقديم خدماتها بشكل جيد، ينال رضا دافعي الضرائب.
ولكن من خلال الاطلاع على البيانات المالية بالموازنة العامة للدولة، تبين حسب أرقام التقرير المالي ليناير/كانون الثاني عامي 2017 و2021، أن الاستثمارات الحكومية فقط على مدار الفترة من 2010/2011-2020/2021 تزيد على تريليون جنيه، ولكن مخصصات الصيانة عام 2020/2021 كانت حوالي 14.1 مليارا، أي بنسبة لا تزيد على 1.4%.
وتزيد ضآلة الرقم إذا تمت نسبته لإجمالي الاستثمارات الإجمالية المنفذة (حكومي وخاص) فالاستثمارات الإجمالية خلال نفس الفترة بلغت ما يزيد على 4 تريليونات جنيه، وبذلك تمثل مخصصات الصيانة لعام 2020/2021 نسبة 0.3% من إجمالي الاستثمارات.
وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي صرح في أحد خطبه بأن قطاع السكك الحديدية يحتاج نحو 10 مليارات جنيه لتطويره، وأنه من الأجدى وضع هذا المبلغ في أحد البنوك، للحصول على عوائد لهذه الأموال بحدود مليار جنيه في العام.
وهنا تظهر عقلية الإدارة الحكومية تجاه عملية الصيانة، وكأن العدد والآلات، أو حتى المباني تعمل بكامل طاقتها على طول الزمان، وهو ما يخالف المنطق، وحتى قواعد المحاسبة. فالميزانيات السنوية للهيئات والمؤسسات العامة تدرج بها مخصصات للصيانة والاستهلاك للأصول، سواء العدد والآلات أو المباني. ولكن مع غياب الرقابة والمحاسبة، يتم وضع مبالغ هزيلة، أو عدم الالتفات لذلك، مما يؤدي إلى سوء الخدمة، وغياب الإمكانيات اللازمة للعمل بطريق صحيحة تعمل على تقليل الأخطاء البشرية، أو مواجهة العبث والفساد.
كما أن منطق الحديث، عن توجيه أموال تطوير السكك الحديدية للاستثمار في البنوك، عكس كذلك تراجع قيمة الإنسان لدى السلطة الحاكمة بعد انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، فالحكومة تتصرف في الشأن العام بمنطق التاجر الذي ينظر أسفل قدمه، ولا يراعي استمرار ثقة المجتمع به، أو تقديم خدمة تليق بأفراد المجتمع.
ثمة باب كبير للفساد لصيانة الأصول الرأسمالية بالمؤسسات العامة في مصر، وبخاصة ما يتعلق بالعدد والآلات، فيتم توريد قطع غيار غير ملائمة، أو التخلص من عدد وآلات يمكن استخدامها لسنوات قادمة، ولعل جرارات القطارات التي تم استيرادها من أميركا، انكشفت بها أعطال كثيرة، فتم خروجها من الخدمة والرجوع مرة أخرى للجرارات القديمة.
وسيظل باب شراء قطع الغيار للمؤسسات العامة من أوسع أبواب الفساد، طالما أن مصر خارج نطاق الدول المنتجة للتكنولوجيا، أو على الأقل لا تنتج قطع غيار العدد والآلات التي تستخدمها، فكثير من الدول الصاعدة كانت تشترط، لاستيراد خطوط إنتاج معينة، أن يكون هناك استثمارات مشتركة لإنتاج هذه الخطوط وقطع غيرها فيما بعد.
ومما يؤسف له أن مصر في قطاع السكك الحديدية كان لها مصانع تنتج عربات القطارات "سيماف" ولكنها لم تطورها ولم تعطها الفرصة للتطوير من خلال إنتاج ما يتم استيراده من الخارج، من احتياجات هيئة السكك الحديدية محليا، أو بإنتاج مشترك مع شركات أجنبية.
أولويات التخطيط الاقتصادي يتم ترتيبها بناء على عدة معايير، منها استفادة أكبر عدد من السكان، وكذلك العائد منها على التنمية الاقتصادية، ولكن بعد الانقلاب العسكري، تم توجيه أموال طائلة على مشروعات العاصمة الإدارية الجديدة، كان أولى بها تطوير وصيانة الأصول الرأسمالية، سواء في الطرق، أو السكك الحديدية، أو خدمات الإطفاء.
فحينما تتم المقارنة بين إنشاء أكبر كنيسة أو أكبر مسجد بالشرق الأوسط، أو إنشاء أطول برج في أفريقيا، وبين ضخ 10 مليارات جنيه لصيانة وتطوير السكك الحديدية، فأولويات التخطيط تذهب لصيانة وتطوير السكك الحديدية، لقيامها بخدمات أعداد كبيرة من السكان من الطبقتين الفقيرة والمتوسطة.
كما أن مقارنة العائد والتكلفة لتوسيع قناة السويس تعطي نتائج سلبية، إذ تبين عدم مطابقة التوسعة لمتطلبات الملاحة من حيث العمق، وسوف تتعرض مصر لتكلفة باهظة لدفع تعويضات التأخير للسفن، فضلًا عن تقديم صورة سيئة لخدمات الملاحة في قناة السويس خلال الفترة القادمة، مما قد يؤدي إلى انصراف السفن العملاقة عن المرور بالقناة، وهو ما يعني تراجع عوائد المرور بقناة السويس التي تعد من أهم موارد النقد الأجنبي