لا تعرف التجارب الاقتصادية للدول، نجاحات مستمرة، دون أن تواجه تحديات، وعادة ما توجد مشكلات تؤثر بشكل ما على أداء الاقتصاد الكلي، وما يرتبط به من تداعيات اجتماعية، تؤثر على مستوى الرضا لدى المجتمع، وبالأخص الجمهور المؤيد للحزب الحاكم.
وعاشت تركيا منذ عام 2018، تجربة جديدة في ظل الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، ليصبح الرئيس رجب طيب أردوغان، أول رئيس عبر الانتخابات المباشرة، ومن المقرر أن تجرى انتخابات برلمانية ورئاسية في تركيا منتصف عام 2023.
ومن الملفات المهمة في هذه الانتخابات القضايا الاقتصادية التي شغلت المجتمع التركي على مدار السنوات ما بعد عام 2018، وكذلك القضايا الاقتصادية التي ينتظر أن تحدد شكل المستقبل الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع التركي، وفيما يلي نتناول تجربة حزب العدالة والتنمية الحاكم، وما مرت به من نجاحات وتحديات، برئاسة أردوغان.
تتسم التجربة الاقتصادية والاجتماعية لحزب العدالة والتنمية بتركيا، بالإيجابية والتطور منذ تولى السلطة في عام 2003، واستمرارا لهذا التطور الإيجابي، حقق الحزب برئاسة أردوغان العديد من الإنجازات خلال فترة رئاسته الأولى، كرئيس للجمهورية، والتي تنتهي في منتصف عام 2023، وفيما يلي أبرز هذه الإنجازات:
عبر المشروعات الكبرى، دشن الرئيس أردوغان فترته الأولى في الرئاسة، بافتتاح مطار إسطنبول الدولي في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2018، الذي يتسع في مرحلته الأولى لخدمة 90 مليون مسافر سنويا، وتُستكمل مراحل عمله الأربع في عام 2028، ليصل طاقته القصوى لخدمة المسافرين، ويسع حينها نحو 200 مليون مسافر سنويا، ليكون أكبر مطار في العالم.
وعلى صعيد التجارة الخارجية، تواصل الصادرات السلعية لتركيا نموها بشكل مستمر، على الرغم من المشكلات التي مرت بها تركيا على صعيد ارتفاع سعر الفائدة، وانخفاض قيمة العملة المحلية، ولكن الصادرات السلعية اعتمدت بشكل رئيسي على القاعدة الإنتاجية القوية، التي حولت أزمة سعر الصرف إلى فرصة.
فد قفزت الصادرات السلعية التركية إلى 225 مليار دولار بنهاية عام 2021، بينما كانت بحدود 177 مليار دولار في عام 2018، وذلك وفق بيانات معهد الإحصاء التركي.
وتشير أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي إلى أن قيمة صادرات التكنولوجيا المتقدمة بلغت في عام 2020 بتركيا 4.17 مليارات دولار، بعد أن كانت 3.7 مليارات دولار في عام 2018.
ومما تحقق أيضا الحفاظ على حقوق تركيا وقبرص التركية في ثروة الغاز الطبيعي بمنطقة شرق المتوسط، واستعداد تركيا للدفاع عن حقوقها في ضوء قواعد القانون الدولي، وكذلك إبرام بعض الاتفاقيات التي تساعدها في وضع قوي في هذا الملف، عبر إبرام اتفاق لترسيم الحدود بينها وبين ليبيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
وفي أغسطس/آب 2020، أعلن أردوغان عن اكتشاف أول بئر لغاز طبيعي بمنطقة البحر الأسود، وقد توالت فيما بعد اكتشافات لآبار أخرى للغاز في المنطقة ذاتها، وتشير التوقعات إلى أن إمكانيات الغاز في البحر الأسود، تغطي كامل احتياجات تركيا من الغاز لمدة 7 سنوات.
وعلى صعيد آخر، تم اكتشاف آبار للنفط في محافظة ماردين بالقرب من الحدود السورية، وهي نقلة جديدة في أوضاع الطاقة بتركيا، والجدير بالذكر أن تركيا تستورد 90% من احتياجاتها من الطاقة، وبما يكلفها نحو 45 مليار دولار سنويا.
وفي يونيو/حزيران 2021، دشن الرئيس أردوغان مشروع قناة إسطنبول، وذلك من أجل تخفيف الزحام الشديد على مضيق البسفور، الذي يربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، حيث إن طاقة المضيق تتحمل مرور نحو 25 ألف سفينة سنويا، بينما تمر به الآن نحو 43 ألف سفينة كل عام، ما يؤدي إلى طول فترة السفن للمرور.
ويتوقع أن يبلغ عدد السفن التي تمر بمضيق البوسفور في 2050 نحو 78 ألف سفينة، ومن المستهدف أن تبلغ تكلفة قناة إسطنبول 15 مليار دولار.
أما على صعيد الصناعات الدفاعية والتسليح، فتفيد بيانات معهد ستوكهولم للسلام، أن تركيا خلال الفترة من 2016 – 2020 قد زادت صادراتها من الأسلحة بنسبة 30%، مقارنة بالخمس سنوات السابقة عن عام 2016، كما أن واردات تركيا من الأسلحة خلال الفترة 2016 – 2020 انخفضت بنسبة 59% مقارنة بما كانت عليه خلال السنوات الخمس السابقة لعام 2016.
كما أن المعلومات المنشورة عن مساهمة الشركات والمشروعات الخاصة بالصناعات الدفاعية بتركيا، تفيد بأن هيئة الصناعات الدفاعية تشرف على 750 مشروعًا، تبلغ قيمتها 50 مليار دولار، مقارنة بـ26 مشروعًا فقط في عام 2002.
بالإضافة إلى أن عدد الشركات العاملة في مجال الصناعات الدفاعية في عام 2020 بلغ 1500 شركة، بعد أن كان 56 شركة فقط في عام 2002، وتتوسع تركيا في تصدير منتجاتها الدفاعية ما بين الطائرات المسيّرة والغواصات والسفن والمركبات العسكرية، وكذلك أنواع متطورة من المسدسات والبنادق.
وفي مجال صناعة السيارات، نجحت تركيا من أن تجعل من نفسها مركزا إستراتيجيا لصناعة السيارات، حيث يُضم إلى شركاتها المحلية، نحو 13 شركة عالمية لعلامات تجارية كبرى في مجال السيارات، وتتخذ هذه العلامات التجارية من 9 مدن تركية مكان لإقامة مصانعها.
وتشير البيانات الخاصة بالتجارة الخارجية لتركيا، إلى أن أنقرة صدرت خلال السنوات من 2016 – 2021 نحو 900 ألف مركبة إلى 180 دولة، كما أن صادرات السيارات من تركيا في عام 2020 بلغت 25 مليار دولار، موزعة على نحو 118 دولة.
وتحتل بذلك صناعة السيارات صدارة القطاعات المصدرة، وتستهدف تركيا أن تكون الأولى أوروبيا في صناعة السيارات الكهربائية والخامسة على مستوى العالم.
وفي قطاع السياحة، تعد تركيا ضمن أكبر 10 مقاصد سياحية على مستوى العالم، واستطاعت خلال عام 2021، أن تستعيد حيوية قطاع السياحة في ظل جائحة كورونا، حيث تشير بيانات معهد الإحصاء التركي إلى أن عدد السائحين لتركيا بلغ 29.4 مليون سائح مقارنة بـ15.8 مليونا في عام 2020.
وبلغت الإيرادات السياحية لتركيا في عام 2021 ما قيمة 24.5 مليار دولار، مقارنة بـ12.1 مليارا في عام 2020.
ومن أهم إنجازات العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، أداء الحكومة الإيجابي في أزمة كورونا، حيث وفرت الرعاية الصحية مجانيا لكافة المصابين بالجائحة، وكذلك قدمت التطعيمات بالمجان، مع رعاية اجتماعية لكبار السن، وكذلك دعم النشاط الاقتصادي للقطاعات التي أضيرت من الأزمة.
وكان من أهم الجوانب الإيجابية في هذا الملف هو الشفافية التي اتسم بها الأدء الحكومي في إدارة الأزمة، وقد لوحظ تفاعل الشعب التركي مع العاملين بالقطاع الصحي بشكل كبير، عبر ما نظموه من فعاليات في هذا الأمر.
اتخذت تركيا منذ عام 2013 مواقف سياسية وعسكرية، جعلتها هدفا من قبل قوى إقليمية ودولية، فموقف تركيا المؤيد لثورات الربيع العربي واحتضانها المعارضين للثورات المضادة، من الدول العربية بل والإقليم، جعلها مستهدفة سياسيا واقتصاديا.
وكان لخروج قواتها العسكرية في عدد من الدول الإقليمية والعربية، أثر في محاولات البعض للضغط عليها اقتصاديا لإفشال دورها الإقليمي سياسيا وعسكريا، هذا بالإضافة إلى عدة عوامل تتعلق بالسياسة المحلية، مما أدى إلى مجموعة من التحديات الاقتصادية، خلال فترة ما بعد عام 2018، منها:
تعرضت الليرة التركية لعمليات مضاربة عنيفة خلال الفترة من 2018 – 2021، وكانت الآلية التي استحدثتها وزارة المالية بالتعاون مع البنك المركزي التركي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2021، مخرجا مهما، حيث تم بموجب هذه الآلية طمأنة المدخرين على ثرواتهم، عبر ضمان قيمة المدخرات، في حالة تقلبات سلبية لسعر صرف الليرة.
وحسب بيانات البنك المركزي، بلغ سعر الدولار في يناير/كانون الثاني 2018 نحو 3.8 ليرات، ومنذ ذلك التاريخ والليرة في تراجع من حيث القيمة أمام الدولار، لأسباب بعضها اقتصادي لكن غالبيتها يعود لأسباب سياسية، إلى أن بلغت المضاربات ذروتها في ديسمبر/كانون الأول 2021 حيث تجاوز سعر الصرف 18 ليرة للدولار، ثم قدمت الحكومة آليتها للحفاظ عند سعر صرف بحدود 13.5 ليرة للدولار في فبراير/شباط 2022.
ظل سعر الفائدة بعد عام 2016 عند معدل 8%، ثم أخذ في التصاعد، حتى بلغ 24% في عام 2018، ثم هبط مرة أخرى إلى 8.5%، ثم عاود الصعود إلى 19%، وهي القضية التي أدت لأن يعزل الرئيس أردوغان ثلاثة من محافظي البنك المركزي، وذلك حسب صلاحياته الدستورية، ولكن في ديسمبر/كانون الأول 2021 بلغ سعر الفائدة 14%، وتستهدف السياسات الاقتصادية هبوط سعر الفائدة لأقل مما هو عليه الآن.
في إطار اضطراب السياسة النقدية للبنك المركزي التركي، خلال الفترة من 2018 – 2021، نتج عن ذلك صعود معدلات التضخم لمعدلات غير مسبوقة في تاريخ تولي حزب العدالة والتنمية للسلطة.
فحسب بيانات يناير/كانون الثاني 2022، بلغ معدل التضخم 48.6%، ويتوقع البنك المركزي أن يصل معدل التضخم إلى 55% في مايو/أيار المقبل، ثم ينخفض بمعدلات حادة.
وكان من الطبيعي أن يتصاعد معدل التضخم، في ظل الانخفاض الكبير في قيمة العملة المحلية، إلا أن السياسة الاقتصادية لتركيا تستهدف خفض معدلات التضخم، بعد انتهاء الموجة الحالية، التي تستغرق 6 أشهر، تنتهي في مايو/أيار المقبل.
يُقدم حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، على انتخابات منتصف 2023، معتمدين على إرث من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية، في مقدمتها طفرة البنية الأساسية، وتحسين مستوى معيشة الأفراد حيث بلغ متوسط نصيب الفرد من الدخل أكثر من 10 آلاف دولار سنويا، وكذلك الحفاظ على مقدرات تركيا الإنتاجية، واستمرار استهداف التصدير، وانتعاش قطاع السياحة، لما يوفره ذلك من فرص عمل وزيادة قيمة الناتج المحلي الإجمالي.
إلا أن هناك ملفات أخرى، تمثل تحديا للحزب والرئيس أردوغان، وهما يجتهدان في إنجازات مهمة في ملفات التحديات، ومنها زيادة الأعباء على كاهل الأسر، وارتفاع معدلات التضخم، وزيادة أسعار السلع والخدمات، ولذلك تستهدف الحكومة التركية، أن تنخفض أسعار الفائدة إلى معدلات مقبولة، وأن ينخفض معدل التضخم، وأن تكون الليرة في وضع أفضل من حيث سعر الصرف مما يخفف من وطأة أعباء المعيشة على الأسر التركية.
وتتخذ المعارضة من هذه الملفات التي تمثل تحديات أمام الحكومة التركية، مادة لمهاجمتها، وعادة ما تلجأ إلى إسناد التراجع في هذه المؤشرات إلى سوء إدارة الحكومة، ولا تقترب المعارضة من الأسباب السياسية إطلاقا على الرغم من كونها تمثل الثقل الأكبر في حدوث هذه المشكلات.
لا تعتمد نتائج الانتخابات التركية بشكل كبير على الأيديولوجيات -وإن كانت موجودة بشكل ما- ولكن المجتمع يراهن على ما يحصل عليه من سلع وخدمات، ولذلك فسيكون لواقع الأداء الاقتصادي للحكومة التركية، وما نتج عنه في حياة المواطنين، أثر كبير في التصويت.
ومن هنا فالمدة المتبقية، وهي بحدود عام و4 أشهر، هي بمثابة فرصة لحزب العدالة والتنمية أن يركز في تغيير طبيعة المعادلة الاجتماعية، وثمة فرصة إيجابية قد تساعد العدالة والتنمية والرئيس أردوغان في انتخابات 2023، وبخاصة في إطار الملفات الاقتصادية.
وهي أن تجربة الأحزاب المحلية التي فازت بنحو 5 بلديات كبرى، لم تكن إيجابية على الصعيد الاقتصادي، وبخاصة في كبرى البلديات، وهي إسطنبول، حيث يشعر المواطن بخيبة أمل، في أداء البلدية وبخاصة في الأزمات، وعدم تحقيق رئيس بلدية إسطنبول لكثير من وعوده الانتخابية، وبخاصة في قضية خفض أسعار السلع والخدمات.
ويمكن القول إن السيناريو المرجح، أن يكون حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، في مقدمة النتائج الانتخابية، ولكن في ظل ظروف صعبة، ومنافسة شرسة.