ما بين الأسباب السياسية والاقتصادية تعيش الليرة التركية أزمة حقيقية، منذ مطلع أغسطس/آب 2018، حيث انخفضت قيمتها أمام العملات الأجنبية بمعدلات وصلت إلى نسبة 40% خلال الفترة من 1 – 13 من أغسطس/آب، حيث بلغ سعر الدولار مطلع أغسطس 4.90 ليرة، وفي 13 من أغسطس/آب 6.87 ليرة.
ثم أعقب ذلك التاريخ تدخل البنك المركزي عبر حزمة من الإجراءات، بعيدًا عن رفع سعر الفائدة، من خلال تخفيض بعض المخصصات لدى البنوك، لتوفر كم من السيولة يتيح للبنوك التعامل بشكل إيجابي مع متطلبات الأزمة، وقد ساعدت هذه الإجراءات بتوفير نحو 10 مليارات ليرة، و6 مليارات دولار، للجهاز المصرفي في تركيا.
ساعدت هذه الإجراءات على الحفاظ لأداء الليرة التركية منذ 13 من أغسطس/آب أمام العملات الأجنبية، حتى وصل السعر بنهاية يوم الجمعة 17 من أغسطس/آب إلى 6.04 ليرة للدولار. والملاحظ أن البنك المركزي التركي ووزارة المالية، يتعاملان مع الأزمة عبر وسائل وأدوات السياستين النقدية والمالية، ولم يتم اللجوء لإجراءات استثنائية.
فكان لدى البنك المركزي أن يفرض حدودا معينة للسحب والإيداع بالعملات الأجنبية، أو يفرض معدلات للزيادة والهبوط في سوق سعر الصرف، أو يستدرج لاستنزاف الاحتياطي الأجنبي من خلال الإصرار على حماية سعر صرف الليرة، أو يمنع تداول الليرة التركية في الأسواق الخارجية، وغير ذلك من الأمور المتعارف عليها في مثل هذه الأزمة.
ولكن البنك المركزي التركي لم يلجأ لهذه الأدوات الاستثنائية، وهذا دليل ثقة وجدارة ائتمانية واقتصادية، وإن كانت التداعيات غير المبررة لتراجع الليرة تعطيه الحق في ذلك، ولكن الإجراءات الاستثنائية على الرغم مما لها من بعض الإيجابيات، إلا أنها تساعد بقوة على إيجاد سوق سوداء.
لم يكن التزام البنك المركزي ووزارة المالية باللجوء للأدوات الطبيعية وغير الاستثنائية لمعالجة الأزمة، إلا عن دراية بمقدرات الاقتصاد التركي، الذي حقق نحو 7.4% معدل نمو خلال الربع الأول من عام 2018، وكذلك بلوغ عوائد السياحة نحو 16 مليار دولار في النصف الأول من عام 2018، وحالة الأسواق داخل البلاد التي لم تتأثر بالأزمة، سواء من حيث الحركة التجارية والاقتصادية، أو من حيث المردود السلبي للتضخم، فما زالت أسعار السلع بالأسواق كما هي أو وجود زيادات طفيفة.
ومما يطمئن المواطن التركي في قضية التضخم، أن المعاملات البينية للأفراد تأخذ هذا العامل في الاعتبار، فمثلًا عقود إيجار المساكن والمحلات التجارية تزيد فيها القيمة الإيجارية بنسبة سنوية تعادل نسبة التضخم، وكذلك تلتزم الحكومة بزيادة المرتبات سنويًا بنسبة تزيد عن معدل التضخم بنحو نصف نقطة أو نقطة.. ومن هنا ثمة عقد اجتماعي يطمئن لسلامة الإجراءات الاقتصادية سواء على صعيد العلاقات البينية أو الإجراءات العامة المتبعة من قبل الحكومة.
كذلك التوصيف الصحيح للأزمة، فهي في جزء كبير منها، بل الدافع الأساسي لها، الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية، وليس خلافا أمميا، أو قرارات من مجلس الأمن، أو غيره من المؤسسات الدولية، بل ذهبت بعض التقديرات إلى أن خطوات ترامب تجاه تركيا تضر بالاقتصاد العالمي، وهو ما لمسه الجميع من خلال تراجع الأسواق المالية في أوربا وآسيا وأمريكا نتيجة تراجع قيمة الليرة.
وثمة شيء على الصعيد الفني، وهو أن ترك البنك المركزي قيمة الليرة لآليات العرض والطلب -بغض النظر عن أسبابها- ساهم بشكل كبير في تحجيم خروج الأموال الساخنة من تركيا أثناء أزمة الليرة، لأن الخروج سيكون مكلفا ويحمله أصحابها خسائر ليست بالقليلة نتيجة فروق سعر الصرف.
نعم تتحمل تركيا تبعات سلبية نتيجة تراجع عملتها، ولكن كما ذكرنا فإن الأسواق المالية الدولية تأثرت سلبيًا بأزمة الليرة، وكذلك ارتفعت قيمتها عقب الإجراءات التي أعلن عنها البنك المركزي لدعم الجهاز المصرفي والشركات.
ولم تقف تركيا مكتوفة الأيدي أمام قرارات ترمب منذ بداية نشوء الأزمة، بل كانت ترد بالمثل، بل وزيادة، حتى وصفت الإدارة الأمريكية قرارات تركيا بفرض رسوم على بعض المنتجات الأمريكية بالانتقامية، وأتوقع أن خسائر الولايات المتحدة الأمريكية لن تتوقف عند هذا الحد. فالمنتجات الأمريكية المصدرة لتركيا وبخاصة المنتجات التكنولوجية سوف تتأثر الشركات المنتجة والمصدرة لها بشكل كبير، وهو ما قد يدفع ترمب لتعويض هذه الشركات عما أصابها من خسائر، إذا ما استمرت الأزمة، كما فعل في تعويض القطاع الزراعي منذ شهرين بنحو 12 مليار دولار، نتيجة فرض الصين رسوما جمركية على الواردات الزراعية من أمريكا.
كما ذكرنا فإن البنك المركزي ووزارة المالية لم يلجأ إلى استخدام الأدوات الاستثنائية، ولكن إذا ما طالت الأزمة، وكان لها تداعيات سلبية على الاقتصاد التركي، وكان لابد من اللجوء لهذه الإجراءات كنوع من العلاج، فلا بأس، وكما يقولون آخر العلاج الكي. واللجوء للإجراءات الاستثنائية أمر معمول به من قبل اقتصاديات لها مكانتها على الصعيد العالمي، كما فعلت أمريكا إبان الأزمة المالية في عام 2008، وكذلك عندما أمر مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا في عام 1997، بعدم تداول الرينغيت الماليزي خارج النطاق الجغرافي لبلاده، لكي يقطع الطريق على المضاربين في الأسواق الدولية.