سمحت العديد من الدول الأوروبية بأنشطة البنوك الإسلامية خلال السنوات الأخيرة، كما سمحت بمعاملات أخرى تتعلق بسوق المال والتأمين الإسلامي، بعد أن نجحت التجربة في ماليزيا ودول أخرى، وتنطلق تركيا لخطوة جديدة في مسيرتها نحو التوسع في المعاملات المالية الإسلامية.
لدى تركيا 5 بنوك إسلامية، تستحوذ على نحو 5.5% من قيمة المعاملات المصرفية، كما اتجهت مؤخرًا لإنشاء العديد من مراكز الأبحاث الخاصة بالاقتصاد والتمويل الإسلامي، وتم إنشاء أقسام في بعض الجامعات لدراسة هذا التخصص في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، ومن بين الجامعات إسطنبول، أكبر جامعة بالبلاد، وصباح الدين زعيم، وصقارية، وأنقرة للعلوم الاجتماعية، وغيرها، وبعض الجامعات تتيح دراسة هذا التخصص باللغة العربية.
وأعلن عبد الرحمن كان، رئيس جمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين "موصياد"، مؤخرًا بأن إسطنبول ستشهد افتتاح بورصتها الإسلامية في 2021، وأنه سيكون هناك تمويلات مختلفة عام 2024، إضافة إلى نظام للمشاريع السريعة، ونظام شراء وبيع آمن وبمشاركة عدد من الجامعات، والتصريح يجعل المعنيين بالتمويل والاقتصاد الإسلامي يضعون إسطنبول على خريطة المنافسة في هذا المجال.
ظلت قضية سعر الفائدة واحدة من القضايا الشائكة في تركيا على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، خاصة بعد منتصف 2018، عقب الانخفاض الكبير والطارئ في قيمة العملة، حيث شغلت قضية سعر الفائدة الرئيس رجب طيب أردوغان، وتبنى الرأي بضرورة تخفيض سعر الفائدة، واعتبر الفائدة أصل كل الشرور في البلاد.
حتى أن هذه القضية اعتبرها البعض السبب الرئيس لإطاحة أردوغان بمحافظ البنك المركزي السابق، بسبب إصراره على بقاء سعر الفائدة مرتفعًا لاعتبارات مالية واقتصادية من وجهة نظره، إلا أنه لوحظ بعد الإطاحة بالمحافظ، أن سعر الفائدة تم تخفيضه بنحو 10 نقاط، ليصبح عند 14.5% في نوفمبر 2019، ومرشح لمزيد من التراجع، بعد أن أصبح معدل التضخم أقل من 10%، وساعد ذلك الاتجاهات الأميركية والعالمية بخفض الفائدة.
ولا تعد قضية سعر الفائدة هي الوحيدة في ملف التمويل في تركيا، حيث يعتمد القطاع الخاص بشكل كبير على الاقتراض من الخارج، وبلغت ديونه نحو 70% من الدين الخارجي للبلاد، بعد أن وصل لنحو 447 مليار دولار في يونيو 2019.
والتمويل عبر الديون يصاحبه تكلفة مالية عالية، فضلًا عن آثاره الأخرى على التكلفة الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، وكذلك إعطاء الفرصة للدول الدائنة ليكون لديها ورقة ضغط يمكن توظيفها سياسيًا في ظل المحيط المضطرب حول تركيا إقليميًا ودوليًا.
ورغم أن تركيا تمتلك بورصة عريقة، إلا أنها تعتمد كغيرها من البورصات على الأسهم والسندات وغيرها من الأدوات المالية المتعارف عليها في ظل اقتصاد رأسمالي، لا يعبأ باعتبارات التمويل الإسلامي، ومعايير الحلال والحرام وفق قواعد الشريعة الإسلامية.
ووجود بورصة تعمل وفق الضوابط الإسلامية في إسطنبول، سيضيف عامل جذب جديد للاقتصاد التركي، سواء على المستوى الداخلي، بأن يفتح الباب للمدخرين والمستثمرين المحليين لفرصة الاستفادة من هذه السوق، حيث ستكون تكلفة التمويل صفرا، لأن حصة رأس المال ستكون مرتبطة بالربح والخسارة.
وعلى المستوى الإقليمي والدولي، سيؤدي لجذب رؤوس الأموال المعنية بهذا النوع من الاستثمار، والتي وجدت بغيتها في لندن وباريس، وبلدان إسلامية مثل ماليزيا والبحرين. لكن وجود هذه السوق في تركيا، قد يكون له سمات أخرى نظرًا لما تتمتع به البلاد من مقومات، وسعيها خلال الفترة الماضية لتلبية متطلبات هذه السوق.
على مدار نحو أربعة أعوام واجه الاقتصاد التركي تقلبات اقتصادية مختلفة، بسبب تداعيات داخلية أو خارجية، لكنه تمكن من تجاوزها، وإن كانت فاتورة المواجهة قاسية في بعض الحالات، كما حدث في انخفاض قيمة الليرة منذ منتصف أغسطس 2018 وحتى نهاية العام.
وكان السمت البارز، هو أن القاعدة الإنتاجية قوية وتتسم بالمرونة لتحويل أزمة انخفاض سعر الصرف إلى ميزة لزيادة الصادرات، كما أمكن استمرار الإنتاج بنسب تلبي احتياجات المجتمع المحلي، وكذلك زيادة الصادرات في ظل تراجع الواردات بمعدلات كبيرة، مما قلص العجز الجاري إلى نحو 22 مليار دولار خلال الشهور الـ 10 من عام 2019، مقارنة بنحو 54 مليار دولار في 2018.
ومع تصاعد أزمة سعر الصرف أواخر 2018، وبروز قضية المديونية الخارجية، كان لا بد من التفكير بجدية وتسريع الخطى نحو استبدال طريقة التمويل القائمة على الديون إلى التمويل من خلال المشاركة والاعتماد على تحمل رأس المال المخاطرة ليكون الغنم بالغرم.
وبلا شك أن الأجواء الإقليمية التي سمحت لعدد ليس بالقليل بالهجرة لتركيا، بسبب ما تمر به بعد الدول العربية من نظم ديكتاتورية وأزمات سياسية أو حروب أهلية، فاستقر بتركيا، مدخرون جدد، وكذلك مستثمرون، وأيضًا كفاءات مالية واقتصادية في مجال الاقتصاد والتمويل الإسلامي، مما يساعد على أن يكون لتركيا تجربة ثرية في مجال الاقتصاد والتمويل الإسلامي.
تتمتع تركيا بوجود مدرسة فقهية كبيرة لها تراثها من الفقه الحنفي بشكل خاص وعلوم الشريعة بشكل عام، ويستلزم ذلك أن تصاحب خطوة تركيا للإعلان عن سوقها للمال الإسلامي في عام 2021، أن توفر هيئة من الرقابة الشرعية كمتطلب لعمل السوق بشكل أفضل، وفي إطار المدرسة الإسلامية الفسيحة، يجب على هذه الهيئة المختصة بالرقابة الشرعية ألا تقتصر في أعمالها على مدرسة الفقه الحنفي، بل عليها أن تلجأ إلى ما يناسب طبيعة الأعمال والمرحلة من الآراء الفقهية التي تعتمد التيسير، دون الخروج على قواعد الشريعة.
ورغم اتجاه تركيا منذ سنوات نحو الاهتمام بالاقتصاد والتمويل الإسلامي بالجامعات في مرحلتي الماجستير والدكتوراة، ووجود مراكز بحوث بالجامعات متخصصة في نفس المجال، إلا أن المرحلة المقبلة تستدعي أن يكون الاهتمام التعليمي على مستوى المرحلة الجامعية "البكالوريوس" ليكون هناك متخصصون حديثو التخرج في مجالات البورصة والمصارف والـتأمين التكافلي والدراسات الشرعية، وبذلك ستتفرد التجربة التركية عن غيرها من التجارب في بلدان العالم الإسلامي أو الغربي.
على أن يكون التعليم في مرحلة الجامعة مصحوبًا بالتدريب العملي، حتى يتخرج الطالب وهو مؤهل بالفعل لسوق العمل، وفي هذه الحال قد تكون تركيا مصدرة للكفاءات من خريجي الجامعة المؤهلين بالعمل في المؤسسات الإسلامية في كثير من دول العالم، بل وقد يفتح هذا النوع من التعليم الباب لقدوم أبناء الدول الإسلامية أو الدول المعنية بالاقتصاد والتمويل الإسلامي بإرسال أبنائها للتعليم في تركيا.
بشكل عام تميزت التجربة التركية بالتدرج، والتركيز على جوهر أعمالها في مشروعها التنموي، وهو ما ينتظر منها في مجال الاقتصاد والتمويل الإسلامي، لكن عليها أن تنطلق من تجنب الأخطاء التي شابت التجربة في ماليزيا والبحرين وبعض دول الخليج، التي حاولت الالتفاف في بعض المعاملات لتمريرها عبر باب الحيل.