الرئيسية / تركيا / تركيا وديناميكية القرار الاقتصادي

تركيا وديناميكية القرار الاقتصادي

  • بقلم: أ. عبد الحافظ الصاوي
  • 25-02-2019
  • 102
تركيا وديناميكية القرار الاقتصادي
  • المصدر: العربي الجديد
  • يؤدي تحسن الدخول لزيادة استهلاك العاملين ذوي الأجور الثابتة، ويقلل تعثر الأفراد في سداد التزاماتهم.
  • آليات العرض والطلب تحرك مقومات الاقتصاد مع تغيرات إيجابية وسلبية لتفاعل متغيرات خارجية بنسبة كبيرة.
  • يتأثر الاقتصاد الرأسمالي بمتغيرات سعر الصرف والبورصات وأسعار الطاقة ويظل التحدي تقليل تداعياتها الاجتماعية السلبية.

مطلع عام 2019، اتخذت الحكومة التركية قرارين اقتصاديين اجتماعيين إيجابيين، هما خفض أسعار استهلاك الكهرباء والغاز الطبيعي للشركات والمنازل 10%، والثاني رفع الحد الأدنى للأجور 26% ليصل إلى 2020 ليرة، بعد أن كان بحدود 1600 ليرة.

وحظي القراران بتداول إعلامي ملحوظ، خاصة أنهما أتيا بعد مجموعة من القرارات الاقتصادية ذات المدلول الاجتماعي السلبي، مثل ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز بنسبة 14% للشركات و10% للمنازل في مطلع سبتمبر 2018، بعد أزمة انخفاض سعر الليرة في أغسطس 2018، وارتفاع سعر الفائدة إلى 24%، ما نتج منه ارتفاع معدلات التضخم لنحو 25% في أكتوبر الماضي.

لكن اللافت للنظر هنا ورغم التفاعل المجتمعي مع قرارات تحركات أسعار بعض السلع، ورفع الحد الأدنى للأجور، أن الظاهرة تعبر عن ديناميكية القرار الاقتصادي، وأن آليات العرض والطلب تحرك مقومات الاقتصاد التركي، خاصة إذا كانت التغيرات الإيجابية والسلبية نتيجة تفاعل متغيرات خارجية بنسبة كبيرة.

فأزمة الليرة وما ترتب عليها، وكذلك ارتفاع أسعار النفط عالميا خلال الفترة (مايو/أيار - نوفمبر/تشرين الثاني) 2018، أدت إلى النتائج السلبية التي عاشتها تركيا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي خلال النصف الثاني من عام 2018، والتي دعت بعض الأحزاب والقوى السياسية آنذاك للخروج في مظاهرات تندد بارتفاع الأسعار والبطالة.

وحينما شهد الاقتصاد التركي أداءً إيجابيًا، أخيرًا، في زيادة معدلات الصادرات، وانخفاض معدلات الواردات، وزيادة إيرادات السياحة، وانتهاء التصعيد السياسي مع أميركا، فقد تحسن سعر صرف الليرة.

كما أن قرارات خفض أسعار الغاز والكهرباء أتت عقب تراجع أسعار النفط، بنهاية نوفمبر 2018، حيث تعتبر تركيا مستوردا صافيا للطاقة، حيث تستورد نحو 75% من احتياجاتها من الطاقة من السوق الدولية.

هذه هي الرأسمالية، أن تتعايش مع المتغيرات سلبًا وإيجابًا، لكن بطبيعة الحال فإن المواطن يهمه استقرار الأوضاع، ويعتبر نجاح الحكومة في تقديمها حزمة سياسات اقتصادية تجنبه شرور التقلبات في الأسواق الدولية، أو محاولات العبث أو الضغط على مقدراته الاقتصادية والاجتماعية بشكل سلبي.

وتركيا تعيش الرأسمالية الاقتصادية، ويتأثر اقتصادها بشكل كبير بالمتغيرات الاقتصادية، وبخاصة في مجالات سعر الصرف، والبورصات، وأسعار الطاقة، وسيظل التحدي أمام الحكومة التركية ليس فقط في ديناميكية القرارات الاقتصادية، لكن في كيفية التقليل من الآثار السلبية، خاصة في تداعياتها الاجتماعية، وأن تزيد من إيجابيات اندماجها في الاقتصاد الرأسمالي العالمي.

ويتطلب هذا وجود استراتيجيات للتعامل مع الأزمات، خاصة أن جزءًا من تقلبات الاقتصادات الرأسمالية مرتبط بالنسبة لتركيا بمتغير رئيس وهو أسعار الطاقة عالميا، وكذلك التعاملات المالية الخارجية للقطاع الخاص، وبالذات تلك المرتبطة بالديون الخارجية لهذا القطاع، وقد يكون المشروع المالي العالمي الذي أعلن عنه أخيرًا (والذي سيضم تركيا، قطر، ماليزيا) أحد المخارج لتأمين أداء القطاع الخاص التركي، بعيدًا عن ضغوط الدول الغربية.

توظيف سياسي

حينما خرجت المعارضة التركية في مظاهراتها مطلع ديسمبر 2018، لتطالب بخفض الأسعار وتوفير فرص العمل، فإنها استغلت أمرين، الأول الاستفادة من تلك الأجواء العالمية التي تابعها العديد من دول العالم، مثل تلك المظاهرات الخاصة بأصحاب السترات الصفراء في فرنسا، والتي امتدت بأحجام مختلفة إلى بعض دول أوروبا، وكذلك لدول المنطقة العربية.

ولم يغب على المعارضة التركية توظيف تلك الأحداث عبر حمل لافتات محلية لارتفاع الأسعار والبطالة، لتؤثر سلبًا على شعبية حزب العدالة والتنمية، وللتمهيد للفوز بانتخابات المحليات التي سوف تشهدها البلاد يوم 31 مارس 2019، كما أن الحكومة لعبت على نفس الوتر، فجاءت قراراتها لتوصل رسالة شديدة الإيجابية للمجتمع التركي، خاصة أن الزيادة في الحد الأدنى للأجور تزيد عن معدل التضخم المعلن في نهاية نوفمبر الماضي بنحو 5 نقاط تقريبًا.

ومن شأن هذه القرارات على صعيد الحد الأدنى للأجور، وخفض أسعار الغاز والكهرباء، أن تؤثر إيجابيًا على معدلات التضخم بنهاية يناير 2019، لتكون أقل من 20% بأكثر من نقطة. وهو أمر من السهل أن يعدل من مزاج الناخب، ليصوت لحزب العدالة والتنمية، وبخاصة انتخابات المحليات التي كانت مفتاح الحزب والرئيس الطيب أردوغان لتولي السلطة منذ 2003، وسيجد الموطن الأثر الإيجابي في الفترة التي تسبق الانتخابات، وهي الورقة التي سيوظفها الحزب في حملته الانتخابية بشكل كبير.

وثمة أمر آخر على صعيد الوجود العسكري التركي في سورية، خاصة العملية المرتقبة في الشمال السوري ضد القوات الكردية، والتي من المنتظر في حالة نجاحها، أن تزيد مساحات الأراضي التي تسيطر عليها تركيا، وبالتالي عودة المزيد من المهاجرين السوريين بسبب الثورة وما تلاها من حرب أهلية، إلى الأراضي السورية.

ولقد أعلن أخيرًا من قبل وزارة الداخلية التركية أن نحو 291 ألف سوري عادوا إلى أراضيهم بعد عمليتي "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، وعودة المزيد من المهاجرين السوريين إلى ديارهم، سوف تزيد من مساحات فرص العمل للعاطلين الأتراك، مما يعني أن أرقام البطالة خلال عام 2019 قد تكون في نطاق رقم واحد، أي أقل من 10%.

مردود اقتصادي

شهدت معدلات الصادرات السلعية زيادة مستمرة خلال الفترة من سبتمبر وحتى ديسمبر 2019، كما أن سعر الليرة شهد تحسنًا ملحوظًا بعد القرارات الاقتصادية للحكومة، كما شهدت معدلات الواردات السلعية تراجعًا ملحوظًا كذلك.

لكن قد يكون التحسن في أداء الصادرات والواردات السلعية مردّه إلى انخفاض قيمة الليرة، فهو يشجع المستوردين للسلع التركية، ويحجم من إقدام المستوردين الأتراك، الذين واجهوا معدلات تضخم، غير مسبوقة عند معدل 25 بالمئة.

والفترة المقبلة، ستظهر دور انخفاض سعر الليرة على الأداء الإيجابي للتجارة الخارجية لتركيا، فإن استمر هذا الأداء خلال الفترة المقبلة على الأقل خلال الربع الأول من 2019، فسيثبت ذلك أن إدارة التجارة اعتمدت على قاعدتها الإنتاجية القوية والصلبة للاستفادة من انخفاض الليرة، وتحويل الأزمة إلى فرصة.

وسوف تساعد القرارات الأخيرة بتخفيض أسعار الغاز والكهرباء بالنسبة للصناعة بزيادة قدرتها التنافسية في الأسواق المحلية والدولية، إذ سيؤدي ذلك إلى تخفيض تكلفة الإنتاج، فيكون الأداء على الأقل عند المعدلات المرتفعة التي تحققت نهاية 2018، عند 168 مليار دولار للصادرات، و223 مليارا للواردات، ليتراجع العجز التجاري إلى 55 مليار دولار.

وقد يكون قرار الحد الأدنى للأجور عاملًا سلبيًا بالنسبة إلى أداء الصناعة، فيكون خصمًا من الميزة التي سيحققها قرار تخفيض أسعار الغاز والكهرباء، لكنه قد يحمل آثارًا إيجابية على مستوى الاقتصاد التركي وتنشيط الاقتصاد الداخلي، إذ سيؤدي تحسن الدخول إلى زيادة استهلاك العاملين من ذوي الأجور الثابتة، ويقلل من عمليات تعثر الأفراد في سداد التزاماتهم، وبخاصة أن شريحة كبيرة في المجتمع التركي تعيش على نظام الائتمان في أبسط أنواع الاستهلاك، المتعلقة بالملبس والسلع الكهربائية والمعمرة.