بعد معركة انتخابية صعبة وشاقة، شهدت كل أنواع المنافسة، فاز رجب طيب أردوغان برئاسة تركيا، لمدة 5 سنوات جديدة، ليكمل ربع قرن من حياته السياسية، محتلًا أعلى مراتب السلطة التنفيذية في البلاد.
وكان الاقتصاد من أكثر المحاور التي شهدتها المعركة الانتخابية في تركيا، من قبل أردوغان وحكومته والمعارضة، بل ساهم الإعلام الغربي بشكل فج في العمل ضد أردوغان بهذه الانتخابات، مستخدمًا الاقتصاد كأداة للهجوم على الرجل.
وفي المقابل، استخدم أردوغان وحكومته الإنجازات الاقتصادية التي تمت على مدار العقدين الماضيين في حملته، وتسبب في إحداث نقلة تنموية ملحوظة للبلاد، من أبرزها أن أصبحت تركيا عضوًا في مجموعة العشرين، وحدوث تحسّن ملحوظ في دخل الفرد، وأداء البنية الأساسية في التعليم والصحة والسكن.
أما المعارضة فركزت على معدلات التضخم، التي عانى منها المواطنون على مدار العام الفائت، وكذلك تراجع قيمة العملة، مما أدى إلى زيادة أعباء المعيشة للمواطنين، وداعب المرشح الرئاسي الخاسر كمال كلجدار أغلو الشباب بشكل خاص وعموم الشعب، بعلاقات أفضل مع الغرب، وعلى رأسها دخول الاتحاد الأوروبي بدون تأشيرة.
لكن نحن أمام مرحلة جديدة، بعد أن هدأت ماكينة الانتخابات، وأصبحت الوعود الانتخابية على الصعيد الاقتصادي، عقد إلزام على أردوغان الوفاء به، وينبغي أن تخرج للشعب ليجد ثمارها الإيجابية في حياته، وسيكون على أردوغان خلال السنوات الخمس القادمة، خاصة في العام الأول، مواجهة تحديات اقتصادية واجتماعية ترتبت على فوزه، ومنها:
ثمة مجموعة من المشكلات ترتبت على التراجع المستمر في قيمة العملة التركية منذ 2018 وحتى الآن، منها حالة الارتباك التي يعشها أصحاب الأعمال، من مستثمرين ومدخرين، فسعر الدولار حتى يوم الانتخابات الرئاسية يزيد بقليل عن 20 ليرة، بعد أن كان 5.29 ليرات في نهاية 2018.
وأدى عدم استقرار سعر صرف الليرة، إلى انتشار ظاهرة "الدولرة"، في مجالات كثيرة، وشراء الذهب بمعدلات كبيرة، مما أرهق ميزان المدفوعات على صعيد تدبير العملات الأجنبية لاستيراد الذهب من الخارج. وفي مواجهة الظاهرة، اضطر البنك المركزي التركي إلى بيع جزء من احتياطياته من الذهب لمواجهة الطلب المحلي.
وهناك تفاصيل أخرى كثيرة، تتعلق بالتوظيف السياسي للمال في إدارة سوق الصرف، وعلى الحكومة أن تواجه هذه التصرفات بشكل حاسم، ومراقبة سوق الصرف، للسيطرة على الممارسات غير القانونية، التي ساهمت بشكل ملحوظ في استمرار تراجع الليرة، خاصة أن موارد تركيا من النقد الأجنبي، في تزايد في مجالي الصادرات السلعية والسياحة.
ومما يحسب للحكومة، أنه في ظل هذا التراجع لقيمة الليرة، واتساع دائرة الدولرة، ظلت عملية توفير العملات الصعبة متاحة، لا تواجه أي مشكلات أو عقبات، على صعيد الأفراد أو المؤسسات.
وثمة وعود متكررة من أردوغان بتراجع التضخم، خلال الفترة المقبلة، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن معدل التضخم في نهاية إبريل 2023، بلغ 43.6%، وهي نسبة لازالت مرتفعة، وينبغي أن تتراجع إلى ما دون الـ 10%. علما بأن البنك المركزي التركي يستهدف الوصول بمعدل التضخم عند 22.3% بنهاية 2023، و8.8% عام 2024.
من الطبيعي أنه بعد تحسّن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، أن يتطلع الأفراد خاصة الشباب إلى الحصول على المزيد من المزايا الاقتصادية والاجتماعية، مثل توفر فرص العمل، والدخول المرتفعة، وسهولة الحصول على السكن، وتدبير تكاليف الزواج وتكوين الأسر بدون إرهاق للشباب وأسرهم.
وقد قدم أردوغان وعودًا في هذا المجال، بتكوين بنك الأسرة وتقديم قروض لتدبير أمر الزواج للشباب، بقيمة 150 ألف ليرة (7.5 آلاف دولار)، كقرض بدون فوائد، وقدمت عدة وعود أخرى للشباب تتعلق بإعفاءات جمركية للحصول على أجهزة الكمبيوتر والهواتف من الخارج، وكذلك منحهم خدمة الإنترنت مجانًا.
والأكثر أهمية في التحديات التي تواجه أردوغان بخصوص الشباب، هو إعادة الثقة لديهم فيما يتعلق بالمستقبل الاقتصادي لبلدهم، والعمل على تأكيد استقرارهم فيه، وانحسار الرغبة المتزايدة لدى الشباب بالهجرة للخارج، خاصة إلى أوروبا.
يتميز الاقتصاد التركي بوجود قاعدة إنتاجية وخدمية مرنة، وظهر ذلك جليًا في أزمة تراجع قيمة العملة المحلية، حيث قفزت الصادرات السلعية من 145 مليار دولار عام 2018 إلى ما يزيد عن 250 مليار دولار بنهاية 2022. كما أن العوائد من خدمات السياحة بلغت 45 مليار دولار بنهاية 2022 أيضًا، ولكن أردوغان وعد بزيادة قيمة التجارة الخارجية لبلاده إلى تريليون دولار، وهي تزيد بقليل حاليًا عن 600 مليار دولار.
أما السياحة فقد وعد أردوغان بأن يصل عدد السائحين لتركيا إلى 90 مليون سائح، وبلا شك أن نجاحه في تحقيق الهدفين، سيساعد بشكل كبير على إيجاد المزيد من فرص العمل للشباب ولمن يتعرضون للبطالة في المجتمع، على فترات مختلفة.
من أبرز نقاط الضعف، التي تواجه الصادرات السلعية التركية في المرحلة المقبلة، أو حتى المنتجات التي تستخدم في السوق المحلي، أنها لازالت تدور في فلك السلع التقليدية، أو التجمعية، في حين أن تركيا في مجال التسليح استطاعت أن تخطو خطوات ملموسة، في إنتاج الطائرات المسيرة، وكذلك أسلحة أخرى في مجال الاستخدامات البرية والبحرية.
والمعهود في تجارب الدول الغربية وأميركا، وغيرهما، أنه يتم تطويع التكنولوجيات العسكرية لأغراض الاقتصاد المدني، فيتم تحقيق قيمة مضافة كبيرة. ومما يظهر ضرورة اتخاذ أردوغان خطوات سريعة في هذا المجال، أن صادرات التكنولوجيا المتقدمة لتركيا عام 2021 بلغت 5.7 مليارات دولار فقط، من إجمالي صادرات سلعية في نفس العام بلغت 254 مليار دولار.
اكتشافات عدة، أعلنت عنها الحكومة التركية، خلال فترة الانتخابات، تتعلق بالنفط والغاز، خاصة النفط في المناطق شرق البلاد، بقيمة احتياطيات قدرت بنحو مليار برميل، ويتوقع لها أن تحقق إنتاجا بنحو 100 ألف برميل يوميًا، وإن كان أردوغان صرح بأن ما وعد به الشباب في شأن بنك الشباب والأسرة، من قروض ومزايا خرى، سوف يتم تمويله من عوائد حقول النفط، إلا أن المواطن لمس الوفاء بوعود أردوغان، حيث نفذ قرار تقديم الغاز المجاني لاستخدامات البيوت لمدة عام، بدءا من استهلاك مايو 2023.
يحتاج الأمر، أكثر من هذا، من حيث إدارة اقتصادية، لتوظيف تلك العوائد، في ضوء تصريحاته أن تركيا ستصبح مصدّرة للطاقة، وهو ما يعني إفادة البلاد من تجربة بعض البلدان الأوروبية في النرويج أو هولندا، حيث تم استخدام عوائد النفض في تكوين صناديق استثمار سيادية، لصالح الأجيال القادمة.
لا بأس من تقديم بعض العوائد النفطية للمواطنين بشكل عاجل وسريع، مما يخفف عنهم أعباء المعيشة، ولكن لابد من استثمار نسبة لا تقل عن 20% من تلك الفوائد لصالح الأجيال القادمة.