مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة، شهد سعر صرف الليرة تحسنا ملحوظا، حيث ارتفعت قيمتها بنحو 14 قرشا، وثمة حالة من الاستقرار على مدى اليومين الماضيين في سعر الصرف، وسط توقعات بأن تشهد الليرة مزيدا من الارتفاع. ويرى أصحاب هذا السيناريو أن قرار الانتخابات المبكرة أخرج البلاد من حالة ترقب بشأن مستقبلها السياسي، والذي كان مؤجلا لحين انتخابات 2019.
وسيكون الاقتصاد التركي حاضرا بقوة خلال الأيام القادمة، وحتى 24 يونيو/حزيران المقبل موعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، سواء من قبل الحكومة أو من قبل المعارضة.
فالحكومة المتمثلة في حزب العدالة والتنمية والتي تتولى السلطة منذ عام 2003، ترى أنها أنجزت معدلات مرضية على الصعيد الاقتصادي والتنموي، وإن كانت تمر بمشكلات، بينما تذهب المعارضة إلى أن المشكلات الاقتصادية التي تمر بها تركيا تتفاقم بسبب ممارسات العدالة والتنمية.
ومما سيضمن حضورا قويا للاقتصاد في المعركة الانتخابية القادمة بتركيا، أن القضايا السياسية التي برزت خلال الفترة الماضية، كانت محل شبه اتفاق بين الحكومة والمعارضة، وخاصة ما يتعلق بالجانب الخارجي منها، مثل وجود الجيش التركي في سوريا أو العراق، ومواجهة مشروع دولة كردية على الحدود، أو عدم الدخول في خلاف مع روسيا وإيران.
ومنذ أيام أُعلن أن معدل النمو بالاقتصاد التركي يتصدر المرتبة الأولى من بين مجموعة العشرين، بمعدل نمو 7.4% مع نهاية 2017، وقد بلغت قيمة الناتج المحلي الإجمالي لتركيا في التاريخ نفسه 776 مليار دولار. وفيما يتعلق بمعدل النمو المرتفع لتركيا، فقد تجاوز توقعات صندوق النقد الدولي التي صدرت في أكتوبر/تشرين الأول 2017، والتي كانت تضع سقف نمو الاقتصاد التركي عند حد 5.2%.
وفي ضوء هذه البيانات الخاصة بارتفاع الناتج في 2017 عما كان عليه في 2016، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي بتركيا بنهاية 2017 ليصل إلى 9.6 آلاف دولار مقارنة بـ8.1 آلاف دولار في 2016.
"
معدل النمو المرتفع لتركيا، تجاوز توقعات صندوق النقد الدولي التي صدرت في أكتوبر/تشرين الأول 2017، والتي كانت تضع سقف نمو الاقتصاد التركي عند حد 5.2%
"
كما أن الصادرات السلعية تشهد تطورا إيجابيا على مدار الفترة الماضية، وأنها استفادت من خفض قيمة العملة التركية عبر زيادة الصادرات نظرا لما تتمتع به تركيا من قاعدة إنتاجية مرنة تمكنت من زيادة إنتاجها لتواكب الطلب المرتفع بسبب انخفاض قيمة العملة.
وتشير بيانات معهد الإحصاء التركي إلى أن أداء الصادرات السلعية التركية في فبراير/شباط 2018 بلغ 13.1 مليار دولار، بما يمثل زيادة بنسبة 9% مقارنة بأداء الصادرات السلعية في فبراير/شباط 2017، حيث كانت قيمة الصادرات 12 مليار دولار.
كذلك حققت السياحة التركية عوائد إيجابية بنهاية 2017 حيث بلغت 26.2 مليار دولار، وبنسبة زيادة 18.9% عما تحقق في 2016، وتميز عام 2017 سياحيا بعدم وجود تفجيرات أو اعتداءات داخل إسطنبول أو غيرها من المدن، كما كان من قبل.
وعلى صعيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة فقد بلغت 7.4 مليارات دولار بنهاية 2017، مقارنة بـ12.3 مليار دولار في 2016.
بينما تذهب المعارضة إلى رؤية مختلفة للأداء الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية في تركيا، حيث تشير إلى وجود مشكلات تتعلق بارتفاع معدلات البطالة التي بلغت 10.9% بنهاية 2017، وهي نفس المعدلات التي كانت عليها في 2016.
وكذلك ارتفاع التضخم عند معدل 10.2%، وأيضا استمرار تزايد العجز التجاري الذي بلغ نسبة 27.8% بنهاية مارس/آذار 2018 على أساس سنوي، مقارنة بالشهر نفسه عام 2017. أما أكبر المخاوف التي تتبناها المعارضة فهي ارتفاع الدين العام الخارجي البالغ 438 مليار دولار بنهاية 2017.
"
المعارضة تعتمد على تقييمات وكالات التصنيف الائتماني السلبية للاقتصاد التركي
"
كما تعتمد المعارضة بصورة ملحوظة على تقييمات وكالات التصنيف الائتماني تجاه الاقتصاد التركي منذ ما يزيد على عامين، والتي تذهب لتقديرات سلبية ونظرة مستقبلية غير مستقرة للاقتصاد التركي. وقد اعترضت الحكومة التركية غير مرة على هذه التقديرات، وأعلنت أن وضع اقتصادها أفضل مما تعكسه تقديرات هذه الوكالات.
والجدير بالذكر أن الدين العام الخارجي يمثل مديونية الحكومة والقطاع الخاص، وعند معرفة تفاصيل هذا الدين من خلال أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي في عام 2016، وجد أن الدين الخارجي الخاص غير المضمون بلغ 198.9 مليار دولار، أي أن القطاع الخاص يمثل حصة تصل إلى نسبة 49% من حجم الدين الخارجي لتركيا.
وهو ما ساعد على حصول تركيا على وضع أفضل عند مقارنتها بدول الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بنسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي، حيث تبين أن نسبة الدين العام لتركيا من ناتجها المحلي 28.3% في منتصف عام 2017.
ويعتمد هذا السيناريو على أن ينهي حزب العدالة والتنمية الانتخابات القادمة بحسم النتائج التي تمكنه من الفوز على صعيد البرلمان والرئاسة، وفي هذه الحالة سوف يشهد الاقتصاد التركي المزيد من الاستقرار وإزالة أي شكوك في تنفيذ رؤيته لتركيا 2023.
وبالتالي ستكون التحديات القائمة متمثلة في مشكلات الهبوط بمعدلات البطالة والتضخم لما دون الـ10%، وتحسين موقف العملة التركية تجاه العملات الأجنبية، وإن كان انخفاض قيمة العملة الآن مواكبا لاتجاهات الصراع الأميركي الصيني على الصعيد الاقتصادي، والتلويح بدخول العملات في أدوات الصراع.
وقد يؤدي تمكين العدالة والتنمية من الفوز الحاسم إلى تبني سياسة نقدية تجاه سعر الصرف عند سعر توازني لا يقل عن 3.5 ليرات للدولار، وبما لا يتجاوز 3.65، وهو السعر الذي ظل مستقرا لفترة ليست بالقليلة، على الأقل خلال عام 2017. وكانت الانخفاضات التالية في العملة التركية نتيجة لعوامل سياسية، كدخول تركيا في حرب مباشرة في كل من سوريا والعراق، لحماية حدودها من جماعات العنف، ومشاريع بعض القوى الخارجية الساعية لوجود دولة كردية على الحدود التركية، كورقة ضغط على الدولة التركية، وتغير خريطة القوى الإقليمية بالمنطقة.
وسوف يمكّن الحسم الانتخابي العدالة والتنمية من اتباع سياسة نقدية تعكس تصوره نحو خفض سعر الفائدة، وطرح آليات تساعد على تحقيق ذلك، بخلاف السياسة التي يتبعها البنك المركزي من ارتفاع معدلات الفائدة لمواجهة التضخم، والحفاظ على المدخرات.
ومن النتائج المتوقعة في ظل هذا السيناريو أيضا استمرار سياسة العدالة والتنمية تجاه ثروات التنظيم الموازي، والكشف عن المال السياسي سواء من الداخل أو الخارج، والذي يمارس بعض الأدوار في الخفاء لمناهضة مشروع العدالة والتنمية.
ويعتمد هذا السيناريو على حضور قوي للمعارضة يحول دون تفرد العدالة والتنمية بفوز يمكنه من استمرار مسيرته كحزب أوحد يشكل الحكومة، أو إفشال العدالة والتنمية في الاستعانة بأحد الأحزاب الصغيرة من المعارضة للوصول إلى الأغلبية. وإن كان سيناريو الحضور القوي للمعارضة واردا بنسبة ضعيفة، نظرا لطبيعة التركيبة السياسية للمعارضة خلال الفترة الماضية، وطبيعة الظرف الانتخابي الذي فاجأ الجميع وأربك الترتيبات التي كان يمكن الدخول فيها لتمكين المعارضة بشكل كبير من لعب دور مؤرق للعدالة والتنمية.
وبافتراض حدوث سيناريو الحضور القوي للعارضة، فإن دلالاته الاقتصادية ستكون في عودة حالة من عدم اليقين بمستقبل الاقتصاد التركي، كالتي سادت بعد الانتخابات البرلمانية في يونيو/حزيران 2015، والتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية ولكنه لم يتمكن من تشكيل الحكومة منفردا. حيث لوحظ في هذه الأثناء تراجع في قيمة العملة التركية، وشبه توقف للاستثمارات الأجنبية، كما أن رجل الشارع شعر بحالة من الدخول في دوامة قد تذهب بالثمار الاقتصادية التي تم إنجازها منذ عام 2003، وهو ما ساعد على التصويت بقوة في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 لصالح العدالة والتنمية.
"
بافتراض حدوث سيناريو الحضور القوي للعارضة، فإن دلالاته الاقتصادية ستكون في عودة حالة من عدم اليقين بمستقبل الاقتصاد التركي
"
أما إذا ذهبنا إلى آخر درجات التفاؤل بهذا السيناريو، وهو قدرة المعارضة على حسم الانتخابات لصالحها في كل من البرلمان والرئاسة، فبلا شك ستتغير الكثير من قواعد اللعبة في الاقتصاد التركي. بطبيعة الحال لن يكون هناك تغير عن المسار الرأسمالي.
ولكن ثمة تصرفات قد تغير من مسار مشاريع التنمية، وطبيعة العلاقات الاقتصادية لتركيا تجاه دول الاتحاد الأوروبي، والدول العربية التي اتخذت موقفا أكثر تراجعا في علاقاتها التجارية والاقتصادية مع تركيا، منذ تأييد الدول الخليجية للانقلابات على ثورات الربيع العربي.
وسوف يؤدي هذا السيناريو -في حالة حدوثه- إلى حالة من القلق تجاه المهاجرين بتركيا من دول الربيع العربي التي شهدت حروبا أهلية أو انقلابات عسكرية أو سياسية، فبعض هؤلاء المهاجرين يمارس الأنشطة الاقتصادية والتجارية من خلال جلب رؤوس أموال لتركيا، وأقيمت مشاريع فعلية، كما مثلت تركيا مقرا احتياطيا لبعض الأفراد من بلدان الخليج بعد تفاقم أزمة الحصار على قطر، وتداعياتها المفتوحة، مما ساعد على تملك وحدات سكنية وإقامة مشاريع على الأراضي التركية لهؤلاء المواطنين من الخليج.
ولا يُعلَم موقف المعارضة في حالة فوزها من هؤلاء المهاجرين واستثماراتهم وعقاراتهم وتجاراتهم، والأرجح أن المعارضة ستكون أكثر تعاونا مع النظم العربية والخليجية، بما يؤدي إلى تأثير سلبي على هذه الفئة اقتصاديا وتجاريا.
بلا شك الساسة يستخدمون كافة الأوراق التي تمكنهم من الفوز بالانتخابات، وبالتالي سيكون الاقتصاد ومؤشراته الاقتصادية الإيجابية والسلبية شديدة الرواج خلال مرحلة الدعاية الانتخابية، وبلا شك أن كلا من المعارضة والحكومة سيواجه تحديات في هذا الخصوص تجاه الأجيال الجديدة والتي تدخل حلبة الانتخابات ولها تأثير قد يغير من طبيعة النتائج إلى حد كبير.
فالحكومة ستواجه هذه الشريحة بمشروع تركيا ما بعد 2023، وما يقدمه من رؤية متقدمة لتركيا على صعد مختلفة من بينها الاقتصاد، ولكن هؤلاء الشباب لديهم مشكلات البطالة والتضخم ومقارنة تركيا بدول أوروبا على المستوى المعيشي والتقدم التكنولوجي، وبالتالي لا بد أن يتضمن الخطاب الانتخابي رسالة طمأنة لهذه الشريحة من الناخبين.
بينما ستواجه المعارضة تحديا أكبر أمام هذه الشريحة، فليس لديها سجل أو سابق خبرة تعرضه على هؤلاء الشباب لتقنعهم بالتصويت لصالحها، وتبقى مشاريعها وتصوراتها للاقتصاد التركي لم تختبر بعد، وهو ما قد يؤدي إلى عزوف هذه الشريحة عن التصويت للمعارضة لعدم ثقتها في أن ترى هذه المشاريع على الأرض.