بعد إعلان فوز الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان وحزبه بالرئاسة والبرلمان في نهاية شهر مايو/أيار الماضي، كانت التوقعات تذهب إلى حالة من الاستقرار في السياسة النقدية بشكل خاص، والسياسة الاقتصادية بشكل عام، ولكن مع مجيء محمد شيمشك وزيرًا للمالية والخزانة، تبدلت هذه التوقعات، ليجد المواطن التركي نفسه أمام واقع جديد، مثير للقلق.
فقيمة الليرة التركية في انخفاض منذ مايو الماضي وبمعدلات كبيرة تربك حياة المواطن، فبعد أن كان سعر الدولار عشية فوز أردوغان بالرئاسة عند قرابة 20 ليرة، أصبح يوم 10 أغسطس/آب 2023 أزيد بقليل من 27 ليرة للدولار، أي أن قيمة الليرة انخفضت بنسبة 35% في أقل من ثلاثة أشهر.
وكان من الطبيعي أن يكون لذلك أثره على معدلات التضخم، التي قفزت إلى 47.8% في نهاية يوليو/تموز 2023، بعد أن كانت عند 38.2% في نهاية يونيو/حزيران 2023.
ومن المتوقع في ظل استمرار تراجع الليرة أن يتجه معدل التضخم للزيادة. للأسف الشديد، واقع التضخم على حياة المواطن التركي ملموس بشكل كبير، وبخاصة في ظل ارتفاع إيجارات المنازل المستمر، والذي يؤدي إلى مزيد من النزاعات بين المستأجرين وأصحاب المنازل، وكذلك أسعار المواصلات، التي شهدت زيادات متتالية خلال الشهرين ونصف الماضية، فضلًا عن أسعار الطعام والشراب.
فأعباء المعيشة، أصبحت تثقل كاهل المواطنين الأتراك بشكل واضح، ولا تعكس الزيادات المعلنة في قيمة الرواتب والحد الأدنى للأجور، هذه الزيادات المتتالية في الأسعار.
ولم يتوقف التضخم عند انخفاض قيمة الليرة، بل امتد كذلك إلى قيمة سعر الفائدة، التي قفزت من 8.5% في مايو الماضي إلى %17.5 في يوليو 2023، فارتفاع سعر الفائدة أدى إلى زيادة تكاليف الإنتاج.
وبذلك تجتمع زيادة معدلات التضخم من جانب الطلب المتمثل في انخفاض قيمة العملة المحلية، وفي جانب العرض من خلال زيادة تكاليف التمويل بزيادة سعر الفائدة، لنكون أمام معدلات تضخم غير معلوم السقف، وإلى متى سيستمر معدل التضخم في الزيادة، وإلى متى سيكون سعر صرف الليرة في انخفاض أمام العملات الأجنبية. من المهم أن يطمئن المعنيون بالنشاط الاقتصادي في تركيا إلى معرفة هذه المعلومات، فالاستقرار في المؤشرات النقدية والمالية ضروري حتى يستطيع الناس اتخاذ ما يتعلق بعدد من قرارات الادخار والاستثمار والاستهلاك، وكلها محركات رئيسة للاقتصاد.
نعم هناك جانب كبير من المضاربات على أسعار العملات في تركيا، والدافع الرئيس له انخفاض قيمة العملة، حيث وجد طلب على الدولار، غير مبرر، من أجل محاولة الناس الحفاظ على ما تبقى لهم من مدخرات، ولنا أن نتخيل أن من وضع أمواله في البنوك منذ مايو الماضي وحتى الآن، تراجعت قيمتها الحقيقية بنسبة 35%. كذلك التجار وأصحاب الاستثمارات، فهم أيضًا ينظرون إلى أداء نشاطهم في نفس معيار القيمة الحقيقية التي آلت إليها أموالهم، فالجميع الآن، يتعامل بالليرة في الأجل القصير، ووفق قيمة الدولار.
تعد تركيا من أكبر مستوردي الذهب على مستوى العالم، نظرًا للإقبال الشديد على شرائه من قبل المدخرين، كملاذ آمن للمدخرات، فالدولار معرض للمضاربات بشكل كبير، وإن كان الذهب كذلك، إلا أن المضاربات فيه أخف ضررًا من الدولار.
ومؤخرًا اتجهت الحكومة التركية لفرض نظام الحصص على وارداتها من الذهب، لكي تقلل من الطلب على الدولار لشراء الذهب. وهذا الحق تعطيه اتفاقيات منظمة التجارة للحكومة التركية، فوفق بنود اتفاقية "الوقاية من الواردات" يحق لأي حكومة أن تلجأ لنظام الحصص، إذا وجدت أن استيراد سلعة ما أثر على ميزان مدفوعاتها بشكل سالب، وذلك من خلال النظر إلى معدلات متوسط الاستيراد خلال السنوات الثلاث الماضية.
وغير مرة ناشد الرئيس التركي مواطنيه، بإخراج المدخرات الذهبية من البيوت وإيداعها في البنوك، حتى يتحسن الوضع المالي للبنوك، وتتمكن من زيادة نشاطها المالي، وبالتالي زيادة قدرة الاقتصاد على إنتاج السلع والخدمات من مدخرات محلية، وعدم اللجوء للاقتراض الخارجي.
السياسة الاقتصادية التركية قبل مجيء محمد شيمشك وفريقه ضمن الحكومة الجديدة، كانت تعتمد نهجًا اقتصاديًا يقوم على التعايش مع معدل تضخم مرتفع، وسعر فائد منخفض، مقابل استمرار معدلات نمو اقتصادي عال ومعدل بطالة منخفض، وهو ما انعكست نتائجه بالفعل في معدل بطالة وصل إلى 9.5% في نهاية مايو الماضي.
ولكن في ظل السياسة النقدية الجديدة، التي تعتمد على تراجع قيمة الليرة، وزيادة معدلات التضخم، والاجتهاد في زيادة أرصدة احتياطي النقد الأجنبي، من المتوقع أن يشهد الاقتصاد التركي تراجعًا في معدلات النمو، وبالتالي تزايد معدلات البطالة، لتقفز مرة أخرى لأكثر من 10%.
أيًا كانت السياسات الاقتصادية المتبعة، وتقييم الاقتصاديين لها، وهل هي ناجحة أم غير ذلك، فإن المواطن دائمًا لا يقبل إلا أن يكون لأي سياسة اقتصادية ثمارها الإيجابية على حياته، فالمواطن يريد أن يشهد حالة من الاستقرار الاقتصادي. يريد أن يودع حالة القلق، في ما يتعلق بضرورات حياته الأساسية، من طعام وشراب، وملبس ومسكن، وخدمات الكهرباء والماء والغاز، وغير ذلك من رعاية صحية وتعليمية. ومما يجب أن تقلق منه حكومة حزب العدالة والتنمية، أنها على موعد مع المواطنين الأتراك في شهر إبريل/نيسان القادم لإجراء الانتخابات المحلية.
وبلا شك أن استمرار ظاهرة الغلاء بهذا لشكل، قد يؤثر على نتائج الانتخابات بشكل كبير، ويعطي حالة الغلاء القائمة الآن في تركيا الفرصة للمعارضة للمزايدة على الحكومة، وهو ما سيشكل عبئا على الحكومة والرئيس أردوغان بلا شك في انتخابات المحليات القادمة.
نعم ما زالت معدلات الصادرات السلعية في زيادة، وأداء القطاع السياحي جيدا، وقد يساعد على ذلك انخفاض قيمة الليرة، ولكن المعادلة ليس لها طرف واحد، فهناك ما يفسد هذا الأداء الجيد في الصادرات السلعية والسياحة، وهو زيادة تكاليف الإنتاج، نتيجة "الدولرة،" أي ظاهرة اكتناز الدولار، وكذلك زيادة ارتفاع تكاليف التمويل، وزيادة أسعار الخامات، وأجور العمال.
فهل يستطيع محمد شيمشك وبقية الفريق الاقتصادي، وضع حد لمعالجة التضخم، وانخفاض قيمة الليرة التركية التي لم تعد هي القضية، بقدر ما يريده المواطن من استقرار سعر الصرف؟
المواطن يريد أن يلمس النتائج الإيجابية لعودة العلاقات التركية مع دول الخليج، والتي ترجمت في زيادة معدلات التجارة، والوعود بزيادة الاستثمارات الخليجية في تركيا، وكذلك تقديم الخليج الودائع الدولارية بالبنك المركزي التركي، ولماذا لم تؤدِّ هذه الودائع لاستقرار سعر الصرف المضطرب؟
أمام الحكومة فرصة جيدة في ظل حالة الهدوء النسبي لأسعار النفط في السوق الدولية، وبالتالي يمكنها الاستفادة من ذلك في تهدئة معدلات التضخم، لكي يجد المواطن لذلك أثرًا في التخفيف من أعباء المعيشة. فهل سيستمر الوضع الحالي إلى نهاية عام 2023، أم سيمتد إلى عام 2024، أم ستجاوز الفترة ذلك؟
هذا هو التحدي الذي تواجهه الحكومة التركية الآن، نظرًا لما تعكسه الأوضاع الحالية من تداعيات سلبية على الصعد المختلفة في السياسة والاقتصاد والاجتماع.