ثمة حالة من التسليم بأنّ ما يجري لسعر الصرف في تركيا، يخرج عن إطار الحسابات الاقتصادية، وأنّ الأسباب السياسية باتت هي المسؤولة عن هذا التراجع غير المحمود للعملة المحلية، وفي مقدمة هذه الأسباب ذلك الصراع الداخلي على ترتيب المسرح السياسي لانتخابات يونيو/حزيران 2023، التي ستتم على الصعيدين البرلماني والرئاسي.
فما يعلن من نتائج إيجابية للناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2021، أو تراجع معدل البطالة إلى 11.2% خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، واستمرار تزايد معدل الصادرات السلعية ليصل إلى 221 مليار دولار، وانتعاش الموسم السياحي، يؤدي على الأقل إلى وقف تراجع قيمة الليرة التركية، إن لم يكن تحسنها.
وتستخدم آلية المضاربة على سعر العملة في تركيا، بشكل ملحوظ، حتى يمكن توجيه ضربة قوية للرئيس رجب طيب أردوغان، وكذلك حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، حتى تأتي نتائج الانتخابات المرتقبة لصالح المعارضة.
وليس بالضرورة أن يكون المضاربون من الساسة، ولكن يتم توظيفهم من قبل الساسة. والمضارب في النهاية يلهث خلف الأرباح السريعة، وهو غير معني باعتبارات التنمية، أو الصالح الاقتصادي القومي.
ولا تقتصر أعمال المضاربة على سعر الصرف في تركيا، على المحترفين، بل تمتد لتشمل المدخرين، بمن فيهم أصحاب المدخرات الصغيرة، بدافع الحفاظ على ثرواتهم، وكذلك الاستفادة من ظرف إمكانية تحقيق أرباح في الأجل القصير.
لقد اقترب سعر صرف الدولار في تركيا من 17 ليرة اليوم الجمعة، لتستمر حالة الضبابية حول مستقبل استقرار سعر الليرة، وبلا شك فإنّ الضرر الأكبر يقع على عاتق المواطنين، حيث تزيد أعباء المعيشة بشكل متسارع، يصعب التكيف معه في الأجل القصير، ولا سيما أسعار السلع الضرورية، من الطعام والشراب والعلاج.. إلخ.
لقد أعلنت الحكومة التركية، عن حزمة من الإجراءات الداعمة للحماية الاجتماعية، لمواجهة الآثار السلبية الناتجة عن تراجع قيمة الليرة، وكذلك ارتفاع معدلات التضخم، مثل رفع الحد الأدنى للأجور مع رواتب يناير/كانون الثاني 2022 بنسبة تصل إلى 25% (الحد الأدنى الحالي للأجور 2825 ليرة)، وسوف يكون هناك تميز لصالح الأطباء بزيادة تصل إلى 5 آلاف ليرة على رواتبهم الحالية.
كما تدخل البنك المركزي التركي غير مرة، لتحسين سعر صرف الليرة، خلال الأيام القليلة الماضية، وذلك من خلال آلية السوق المفتوحة، بضخ كميات من النقد الأجنبي في السوق، ولكن يخشى من التوسع في هذه الآلية، وأن يتم استنزاف احتياطي النقد الأجنبي، الذي تحسّن على مدار الشهور الثلاثة الماضية ليصل إلى 125 مليار دولار.
وأعرب الرئيس أردوغان عن ثقته في خطة حكومته لمعالجة الوضع الاقتصادي، وأنّ التوجه لخفض سعر الفائدة، لصالح النشاط الإنناجي، واستمرار توفير فرص عمل جديدة، لمواجهة مشكلة البطالة، متوعداً بوقف المضاربين على سعر الصرف، والكشف مخططهم، ولذلك قام الرئيس بتشكيل لجنة للبحث في أمر هذا التراجع في سعر الليرة "غير المبرر"، ومعرفة المتلاعبين في هذا الأمر.
إنّ الإجراءات التي تمّت إلى الآن من لجوء البنك المركزي التركي لآلية السوق المفتوحة، أو خفض سعر الفائدة بشكل كبير على المدخرات بالدولار، أو فرض رسوم بسيطة على تحويل المدخرات المحلية إلى العملات الأجنبية، كلها أمور تدور في فلك الإجراءات الطبيعية.
عادة ما يذهب الاقتصاديون إلى ضرورة اتخاذ إجراءات "استثنائية" لمواجهة الأزمات الاقتصادية، فمثلاً في الدول الرأسمالية التي تقلّص دور الدولة في النشاط الاقتصادي، تلجأ إلى زيادة الإنفاق العام في حالة وقوع اقتصادياتها في حالات ركود يؤثر على مستقبل الاقتصاد القومي.
إنّ الوضع في تركيا يستلزم التفكير وفق هذه الآلية، في ظل الأوضاع الحالية للتراجع غير المبرر في سعر صرف العملة المحلية، فتركيا أمام أزمة في سعر صرف عملتها، لا يعلم لها سقف. والعمل وفق الآليات الطبيعية، قد يشجع المضاربين أكثر، بسبب ضعف ما يتحملونه من تكلفة مقارنة بما يحققونه من أرباح.
يجب ألا تفقد تركيا ما تحقق لها من مزايا وجود قاعدة إنتاجية قوية، قادرة على المنافسة في سوق التصدير، ليصبح مصيراً رهن المضاربات، والعوائد الريعية.
ولذلك ينبغي التوجه لإجراءات "استثنائية"، يمكن الرجوع عنها تدريجياً، عندما يعود سعر صرف الليرة إلى المعدلات الطبيعية وفق آليات العرض والطلب، بعيداً عن التوظيف السياسي، الذي يستهدف كسب الانتخابات عبر أي وسيلة، وإن كانت تضر بالاقتصاد القومي.