الديون لا تصنع تنمية
رؤية مختلفة
تدفقت العوائد النفطية على دول الخليج منذ نحو سبعة عقود، ومرت هذه العوائد بطفرات ثلاث، كان آخرها في الفترة (2003-2014)، ومثلت هذه الطفرات علامات واضحة في الإيرادات العامة لتلك الدول، حيث تم توجيه جزء من هذه الأموال في تمويل بنيتها التحتية.
وثمة جدل كبير حول الاستفادة المثلى لدول الخليج من عوائد النفط، سواء على الصعيد القطري أو الإقليمي أو الدولي.
ولكن بقيت دول الخليج رغم عوائد وطفرات النفط في عداد الدول النامية، ولم تصنف بعد في إطار الدول الصاعدة أو المتقدمة، نظرا لاعتماد ثروات الخليج على مصادر ريعية، وضعف مساهمة القطاعات الإنتاجية والتكنولوجية على وجه التحديد في تكوين ناتجها المحلي الإجمالي.
ولقد ألقت أزمة انهيار أسعار النفط، التي بدأت منتصف 2014، بظلالها غير الإيجابية على اقتصاديات دول الخليج، وظهرت بوادر شديدة السلبية في الأجل القصير على اقتصاديات تلك الدول، مثل عودة عجز الموازنات، والاتجاه نحو التوسع في الاقتراض المحلي، والسحب من احتياطيات النقد الأجنبي، وثمة نصائح توجه لدول الخليج بالاقتراض الخارجي.
وأظهرت أزمة انهيار أسعار النفط، هشاشة نموذج التنمية في دول الخليج، نظرا لعدم تبنيه سيناريوهات مواجهة التقلبات في السوق العالمية لواحدة من أشد السلع تقلبا، وهي النفط، التي يعتمد عليها اقتصاد الخليج بشكل رئيسي.
وبدأت دول الخليج في السحب من احتياطياتها من النقد الأجنبي، وتبني ما يعرف بالإصلاحات المالية والنقدية، من تخفيض الدعم، والتوجه لخفض الإنفاق الحكومي لبعض المشروعات، بناء على توصيات تقارير صندوق النقد الدولي.
في تقرير لصندوق النقد الدولي عن منطقة "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفغانستان وباكستان"، صدر في أكتوبر/تشرين الأول الجاري، تم التعرض لأداء اقتصاديات المنطقة، سواء على صعيد الدول النفطية وغير النفطية، وأطال التقرير في السلبيات التي مُنيت بها الدول النفطية في ضوء أزمة انهيار أسعار النفط.
وقدر الصندوق أن تصل المبالغ الخاصة بعجز موازنات دول الخليج في العام 2015 لنحو 145 مليار دولار، وأن خسائر دول الخليج بسبب انخفاض أسعار النفط تقدر بنحو 360 مليار دولار.
ويرى تقرير الصندوق عواقب وخيمة على الدول النفطية بالمنطقة، وفي القلب منها دول الخليج في الفترة (2015-2020)، خاصة إذا ما استمرت حالة الصراعات المسلحة بالمنطقة.
"
يقدر الصندوق أن تصل المبالغ الخاصة بعجز موازنات دول الخليج في العام 2015 لنحو 145 مليار دولار، وأن تبلغ خسائر دول الخليج بسبب انخفاض أسعار النفط نحو 360 مليار دولار
"
إلا أن التقرير يحمل في كل صفحاته ثقافة الصندوق الرأسمالية من حيث تفكيك القضايا، ووصف العلاج لها، ومن بين تلك الوصايا التي تناولها التقرير قضية استعانة دول الخليج بالقروض السيادية لسد عجز الموازنة.
ورغم نص التقرير على أن الاقتراض السيادي يمثل أحد خيارات تمويل عجز المالية العامة، فإنه يرى في الاقتراض السيادي لدول الخليج فرصة لتطوير أسواق الدين لديها، ثم يحدد آلية ذلك بسُبل تشمل إصدارات سيادية لأدوات إسلامية طويلة الأجل.
غير أنه في تفاصيل ما ورد في الإطار (4-2) من تقرير الصندوق، تم التركيز على أن يكون التمويل عبر آلية السندات للحكومة ولشركات القطاع الخاص، والتركيز في الأجل القصير على الترويج للديون الحكومية قصيرة الأجل، وهي أذون الخزانة.
المأخذ هنا على وصايا الصندوق هو أنه لم يع درس الأزمة المالية العالمية، بأن العلاج لأزمة التمويل هو المشاركة، وليس آلية الدين.
وثمة نصائح عدة حملتها تجارب تنموية ناجحة، خلصت إلى أن الاقتراض أحد أهم معوقات التنمية، وأن المشاركة والاستفادة من الموارد المالية المحلية هي السبيل الناجع، ومن أبرز النماذج على هذا تجربة مهاتير محمد في ماليزيا.
وقد نصح مهاتير محمد المجلس العسكري بمصر في أثناء الفترة الانتقالية الأولى بعد ثورة يناير 2011 بعدم الاقتراض، والتركيز على الصناعة مدخلا للتنمية ومحاربة الفقر.
الأمر الثاني أن التقرير أشار إلى سُبل الإصدارات الإسلامية طويلة الأجل، ولكنه في الوقت نفسه يبرز أهمية تنشيط سوق الدين المحلي بدول الخليج في مجال أذون الخزانة في الأجل القصير. والسؤال هنا، متى كانت الأدوات الإسلامية تسمح بتمويل أذون الخزانة؟
الأدوات الإسلامية بصيغها المختلفة لا تُقرض أحدا لا الأفراد ولا الدول، ولكنها تمول في إطار المشاركة لرأس المال في التمويل بالمشاركة أو المرابحة أو المضاربة أو الإجارة أو الاستصناع أو السلم، وغير ذلك، ولكن أذون الخزانة التي تمول الإنفاق الجاري بالموازنة العامة لا تتفق وشروط التمويل الإسلامي، حيث إنها تندرج تحت عقود الربا.
"
المأخذ هنا على وصايا الصندوق هو أنه لم يع درس الأزمة المالية العالمية، بأن العلاج لأزمة التمويل هو المشاركة، وليس آلية الدين
"
الأمر الثالث هو أن التقرير بدلا من التركيز على المهمة الرئيسية وهي معالجة قضية التمويل بما يضمن عدم الدخول في ركود أو أزمة ديون، انصرف إلى تنشيط أسواق الدين المحلي، وبدلا من أن يرى الصندوق أن أزمة التمويل تخص حكومات دول الخليج، يريد أن تدخل شركات القطاع الخاص بتلك الدول في دوامة التمويل بالديون.
كما قال علماؤنا "الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وأحسب أن الوضع في الخليج له خصوصية تختلف عن تلك المنطلقات الرأسمالية التي تعتمد عليها رؤية الصندوق، فصندوق النقد الدولي في تكييفه للأزمة، نظر إليها من منظور مالي ونقدي بحت، وعالجها في إطار منظوره الرأسمالي، الذي يضر بالتنمية في دول الخليج.
لكن حقيقة الأمر أن دول الخليج تحتاج لوقفة بعد تكرار أزمتها غير مرة، مع انهيار أسعار النفط في السوق العالمية، وكذلك هشاشة تكوين ناتجها المحلي، فضلا عن المتغيرات التي تمر بها المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط عامة.
فالاعتماد على التمويل بالدين هو نوع من التوريط، يبدأ بالتوسع في الدين المحلي، ثم الدين الخارجي بضمان الثروة النفطية. والمطلوب في وضع دول الخليج، أن تصل لمرحلة من البناء الاقتصادي، الذي يحصنها من تقلبات السوق الدولية، ويعظم الاستفادة من ثرواتها الطبيعية، التي ما زالت تمثل عصب الحضارة حتى الآن.
"
الأمر يقضي بأن تعيد دول الخليج النظر في موازناتها وترتب أولوياتها من حيث الإيرادات والنفقات، وأن تعيد توجيه استثماراتها الخارجية بعيدا عن المضاربة في أسواق المال
"
فالأمر يقضي بأن تعيد دول الخليج النظر في موازناتها، وترتب أولوياتها، من حيث الإيرادات والنفقات، وأن تعيد توجيه استثماراتها الخارجية بعيدا عن المضاربة في أسواق المال والعقارات، وتتجه لأنشطة إنتاجية، خاصة في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
كما يحتاج الأمر إلى النظر في السياسة النفطية الحالية لدول الخليج، حيث يعد الإصرار على الاستمرار في الإنتاج النفطي بنفس الكميات التي كانت تنتج قبل الأزمة، نوعا من إهدار الموارد، وإن كان للأمر دواعيه السياسية.
ولم يعد من المقبول استمرار دول الخليج في تصدير النفط بشكله الخام، فالحرص على أن يخرج النفط من دول الخليج في شكل مشتقات، سيرفع من القيمة المضافة للنفط، ويساعد على الاحتفاظ باحتياطيات دول الخليج لسنوات أطول، مما هو مقدر لها الآن.
وكثيرا ما أشارت تقارير صندوق النقد لضرورة تخلص الحكومات الخليجية من العمالة الزائدة، وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في خلق فرص العمل، ولكن هذه التقارير لم تشر إلى ضرورة النظر في مخرجات أجهزة التعليم بالدول الخليجية خاصة السعودية، أو إعادة تأهيل العمالة الحالية بالحكومة، بحيث تكون مؤهلة لسوق العمل بشكل أفضل، سواء بإعادة توزيعها في وظائف حكومية مطلوبة أو الدفع بها في سوق العمل بالقطاع الخاص.
وتتناسى تقارير صندوق النقد الدولي أن القطاع الخاص بدول الخليج يعتمد بشكل كبير على الدولة، وأن الرأسمالية الخليجية هي رأسمالية الدولة بالدرجة الأولى، فالقطاع الخاص بتلك الدول يحتاج لفترة انتقالية لإعادة تأهيله، قبل أن تزاح عليه مسؤوليات كبيرة مثل ريادة التنمية أو خلق الوظائف.