ملامح المشروع
آفة اقتصادات الربيع
التعليم والصحة
دوافع النموذج التنموي
عوامل نجاح النموذج
استهدفت ثورات دول الربيع العربي إزاحة النظم الدكتاتورية لتعيش في ظل نُظم تحترم آداميتها، وتوفر معيشة كريمة لمواطنيها، وشكلت الطموحات التنموية مرتبة متقدمة على أجندة هذه الثورات، خاصة أن تصنيفها التنموي وفق المؤشرات العالمية بين دول نامية ودول أقل نمو.
وعانت هذه الدول من مظاهر خلل متعددة على الصعيد التنموي، سواء من حيث ارتفاع معدلات الأمية، أو سوء توزيع الثروة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، أو هشاشة ناتجها المحلي الإجمالي، وتواضع معدلاته، أو اعتمادها على الخارج ومعاناتها مع العجز المستمر في موازين مدفوعاتها، أو عجز موازناتها العامة، وكذلك ارتفاع معدلات الدين العام.
وفي ظل هذه المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، تتطلع شعوب دول الثورات العربية لنموذج تنموي، يعمل على انتشالها من مستنقع التخلف، ويضعها في مصاف الدول الصاعدة.
إن سقف التطلعات لدى الشباب بدول ثورات الربيع العربي ينم عن وعي عال بما تمتلكه هذه الدول من موارد باختلاف أنواعها (الطبيعية، والبشرية، والمالية) ومن ثم تطرح مبادرات للاستفادة من هذه الموارد وتعظيم قيمتها المضافة، لتحقق وفورات مالية واقتصادية تساعد في التخفيف من حدة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحالية.
"
من الطبيعي أن تلفت الأنظار للتجارب الناجحة في العالم للانتقال من المجتمعات النامية إلى الاقتصادات الصاعدة أو المتقدمة، ولكن فرق كبير بين أن تُستنسخ تجارب التنمية وأن يستفاد من تجاربها
"
من الطبيعي أن تلفت الأنظار للتجارب الناجحة في العالم للانتقال من المجتمعات النامية إلى الاقتصادات الصاعدة أو المتقدمة، ولكن فرق كبير بين أن تستنسخ تجارب التنمية وأن يستفاد من تجاربها، وما تحتاجه دول ثورات الربيع العربي هو الاستفادة من تلك التجارب، بحيث يكون لدول الثورات خصوصيتها، التي تعتمد على الذات، وتستفيد من إمكانياتها المختلفة.
وكثيرا ما يتم الحديث في الأدبيات الاقتصادية بدول ثورات الربيع العربي عن أهمية دور القطاع الخاص، سواء كان وطنيا أو أجنبيا، ولكن لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن القطاع الخاص في تلك الدول ضعيف، ولا يمكنه القيام بمهام التنمية وحده، أو أن يوكل إليه الأمر، بحجة تشجيع القطاع الخاص، فأوروبا في بداية نهضتها، اعتمدت على دور الدولة بشكل كبير، ووفرت الدول الأوروبية في ذلك الوقت حماية كاملة لصناعتها وزراعتها، حتى تمكن القطاع الخاص من المنافسة والدخول في حرية التجارة.
ومن هنا فدور الدولة في بدايات التجربة التنموية لا بد أن يكون قوي، ولا يقتصر فقط على التوجيه أو الرقابة، ولكن بجوار ذلك لا بد من التواجد في المجالات الإنتاجية وتقديم الخدمات، في إطار من المعايير الاقتصادية الصحيحة، وفي الوقت نفسه يتجه المجتمع لتقوية وخلق قطاع خاص وطني قوي، يمكنه فيما بعد مشاركة الحكومة في تحمل أعباء التنمية، ثم القيام بالدور الأكبر.
من آفة الأطروحات الاقتصادية على الساحة العربية أن الحلول أو المقترحات تعتمد على وجود حل واحد، في حين أن الجمع بين أكثر من حل وبنسب مختلفة قد يكون هو الاختيار الأمثل لتجربة التنمية في دول ثورات الربيع العربي.
فلا مانع من تركيز اهتمامات الحكومة على مساندة المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، لأنها تستوعب عددا كبيرا من العاملين، وهو توجه يساعد على تخفيف حدة البطالة، فضلا عما تتمتع به هذه المشروعات من مزايا أخرى، تتمثل في انخفاض رأس المال اللازم لعملها، وانخفاض تكلفة فرصة العمل بها، وسعيها في تلبية احتياجات مجتمعاتها المحلية.
أما المشروعات الكبرى فلا بأس أن تكون موجودة، مع مرعاة أن يكون الجزء الأكبر من مردودها الاقتصادي والاجتماعي عائدا على تلك المجتمعات، بحيث تساهم في مشروعات إنتاجية، وفي البداية يفضل أن تكون هذه المشروعات كثيفة استخدام العمل.
وعماد نجاح أي تجربة تنموية هو المدخرات المحلية، ففي جنوب شرق آسيا مثلت المدخرات المحلية المصدر الرئيس للتمويل، وأتى الاستثمار الأجنبي المباشر بعد أن حققت هذه الدول نجاحا في مشروعها التنموي. ولذلك استطاعت أن توجه الاستثمار الأجنبي في إطار أجندتها الوطنية للتنمية.
ولذلك يجب على الحكومات بدول الربيع العربي أن تشجع على زيادة معدلات الادخار، ولتبدأ هذه الحكومات بنفسها من خلال ترشيد الإنفاق، وزيادة الإيرادات العامة، بما يؤدي في النهاية لزيادة مدخرات القطاع الحكومي. ومن ثم تقديم الحوافز اللازمة لتشجع القطاع العائلي على زيادة مدخراته.
ومن الضرورة بمكان أن تُفعل هذه الحكومات مدخرات القطاع العائلي في مشروعات إنتاجية وخدمية عبر الاكتتاب العام، الذي يسمح لصغار المدخرين بالمساهمة في هذه المشروعات، ومن إيجابيات هذه الطريقة أنها تجعل المواطنين شركاء في ملكية هذه المشروعات، وبالتالي سيكونون أكثر حرصا على نجاحها واستمرارها.
"
من آفة اقتصادات دول الربيع العربي أن صادرتها شأن كل الدول النامية يغلب عليها تصدير السلع الأولية، وهو ما يفقدها عائدا كبيرا لو أنها اتخذت خطوات لتصدير سلع نصف مصنعة أو مصنعة بالكامل
"
من آفة اقتصادات دول الربيع العربي أن صادرتها شأن كل الدول النامية يغلب عليها تصدير السلع الأولية، وهو ما يفقدها عائدا كبيرا لو أنها اتخذت خطوات لتصدير سلع نصف مصنعة أو مصنعة بالكامل.
وقد يستغرق الأمر بعض الوقت، لكن لا بد أن يكون هذا الأمر جزءا من رؤية هذه الدول للتنمية. وإن استعصت عليها مسألة التمويل، فلتجعل هذا المجال مولجا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، بحيث تأتي هذه الاستثمارات لتسد جانبا من العجز، وفي الوقت نفسه تزيد حصة هذه البلدان من إيرادات صادراتها.
من أهم مقومات التنمية البشرية مجالا التعليم والصحة، وينبغي أن يركز مشروع التنمية بدول ثورات الربيع على زيادة الإنفاق والاستثمار في هذين المجالين، فالإنسان أساس التنمية، وما لم تنجح هذه الدول في إيجاد إنسان متعلم ولديه قدرات تدريبية جيدة، ويتمتع بظروف صحية مواتية، فإن تجربتها التنموية في مهب الريح، وسيكون مصيرها الفشل.
كما يجب على هذه الدول التركيز على الشفافية ومحاربة الفساد، فقد عانت دول الثورات من الفساد بكل أشكاله، ولم تظهر بعد خطوات جادة وقوية لاستئصال شأفة الفساد بها، ولذلك لا بد من تقوية دول الأجهزة الرقابية، ومحاربة الفساد في كل المجالات، وترسيخ مبادئ العدالة الاجتماعية، التي تقوم على التكافؤ في الحصول على الفرص، وأن يتم التمكين من الحصول عليها، وأن يتسم هذا الأمر من الإتاحة والتمكين بالاستدامة، ولا يكون حالة وقتية.
"
ما لم تتدارك دول الربيع ما فاتها على مدار العامين الماضيين، نحو تبني مشروع تنموي يعتمد على الذات، فسوف يؤدي الوضع لمزيد من الانقسامات السياسية والاجتماعية ووجود حالة من السخط لدى رجل الشارع
"
من أبرز الدوافع لتبني المشروع التنموي المطروح أن البديل أشد ضررا، وهو أن تستمر هذه الدول في وضعها التنموي المتخلف، إن لم تنحدر أكثر مما هي عليه، وبالتالي ليس أمام هذه الدول من بديل لتبني مشروع تنموي يعتمد على الذات، ويعظم من عوائد مواردها الطبيعية والبشرية والمالية.
ما لم تتدارك هذه الدول ما فاتها على مدار العامين الماضيين، نحو تبني مشروع تنموي يعتمد على الذات، فسوف يؤدي الوضع إلى مزيد من الانقسامات السياسية والاجتماعية، ووجود حالة من السخط لدى رجل الشارع على الثورات، وما ترتب عليها من نتائج سلبية، أو عدم تبنيها لنموذج تنمية يغير حياة المواطنين للأفضل.
ثمة أطروحات تصاحب بعض مروجي الاقتصاد الرأسمالي، تحاول أن تجعل من دول ثورات الربيع العربي مجرد ورش لاقتصاديات غربية أو أسواق لاستهلاك منتجات الدول الصناعية المتقدمة أو الصاعدة على السواء.
وهذا الطرح لا يبني تنمية تتسم بالاستدامة، ولذلك فوجود تنمية تعتمد بشكل رئيس على إمكانيات الدول تجعل المجتمعات أكثر استقرارا وإنتاجا، وتحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
أيضا فإن ما تملكه هذه الدول من ثروات يسمح لها بأن تؤسس لمشروعها التنموي، وعليها أن تحيي أشكال التعاون الاقتصادي بينها، في إطار مشروع أكبر للتعاون أو التكامل الاقتصادي العربي، خاصة أن دول ثورات الربيع العربي ينظر إليها في باقي الدول العربية على أنها تؤسس لوطن عربي جديد، غير خاضع لتبعية الدول الكبرى.
لعل أهم عوامل نجاح النموذج التنموي المطروح هو سرعة الخروج من حالة السيولة السياسية التي تعيشها دول ثورات الربيع العربي، والانتهاء من عملية بناء المؤسسات التشريعية، فمن دون هذا الأمر ستظل الأمور تدار في إطار بعيد عن دولة القانون. والاستمرار في دائرة الاستحقاقات الحزبية والطائفية، بعيدا عن الأداء الوطني الجامع.
كما ينبغي استيعاب الشباب في مختلف المؤسسات المعنية بتفعيل نموذج التنمية، حيث كان الشباب هم وقود الثورات العربية ومفجريها، ولديهم من الإصرار ما يكفي للتعامل مع المشكلات الموجودة أو التي تطرأ على ساحة العمل، بخلاف موظفي الدولة البيروقراطيين.
من الضروري تقديم النموذج التنموي في إطار إعلامي وتوعوي للمجتمع، يجمع بين التبشير لأفراد المجتمع بما سيعود عليهم بالنفع، مع الأخذ في الاعتبار أن تنفيذ المشروع يعتمد على العمل وليس العصا السحرية، وأن تجارب التنمية في كل الدول الناجحة كان الوقت أحد محددات نجاحها، فبعضها استغرق ثلاثة عقود، وبعضها استغرق عقدين، أو عقدا واحدا