منذ عام 2005 قادت الولايات المتحدة سياسة تخفيض سعر الفائدة لتشجيع الاقتراض لقطاع الأعمال أو الأفراد من أجل الخروج من حالة الركود التي كان يعيشها الاقتصاد الأمريكي فى ذلك الوقت ، وقد استمرت أمريكا فى انتهاج هذه السياسة منذ ذلك التاريخ حتى وصل سعر الفائدة فى البنوك الأمريكية بحدود صفر أو 0.25% عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية فى أغسطس - آب 2008.
وعلى نفس خطى أمريكا اتجهت أوروبا إلى سياسة تخفيض سعر الفائدة، حيث خفض البنك المركزي الأوروبي مؤخرا سعر الفائدة على اليورو إلى 0.5% سنويا.
ومن شأن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أن يتخذا من القرارات ما يشاؤون، ولكن القرارات المتعلقة باتجاهات أسعار الفائدة تتعلق بمقدرات الاقتصاد العالمي، حيث تتواجد استثمارات متنوعة لدول أخرى في أمريكا وأوروبا سواء فى شكل ودائع بالبنوك أو أستثمارات فى أدوات دين أخرى مثل الأذون وسندات الخزانة، وبالتالي فإن العائد على الاستثمارات أصبح متدني جدًا.
وإذا كانت وجهة النظر الأوروبية تعتمد على خفض سعر الفائدة على اليورو من أجل تشجيع الاقتراض للاستثمار، وتحريك سوق العمل، فإن المستثمرين الأجانب وفي مقدمتهم العرب، يتعرضون لخسائر كبيرة، حيث أن تلاشى سعر الفائدة وانخفاضها إلى هذه المعدلات المتدنية، يجعل المعادلة في صالح طرف واحد، وهى أوروبا، بينما يفكر العرب وغيرهم من أصحاب الصناديق السيادية الأخرى في الفرصة البديلة.
الوضع بأوروبا
الواقع المعيش للاقتصاد العالمي، وبخاصة الأوضاع الاقتصادية في أوروبا، جعلت الجميع يعيد النظر في مسلمات اقتصادية استمرت لعدة عقود، ومن أهم هذه المسلمات ما شهدها الاقتصاد العالمي في بداية الثمانينيات من القرن العشرين من تعايش ظاهرتي التضخم والبطالة معًا، وهو ما أطلق عليه ظاهرة التضخم الركودي، بعد أن كان هناك اعتقادا جازما بأن العلاقة بين الظاهرتين عكسية.
ولكن في ظل الوضع الاقتصادي الأوروبي الحالي عادت العلاقة العكسية بين الظاهرتين مرة أخرى، حيث ارتفعت معدلات البطالة في منطقة اليورولتصل إلى 12% ، بينما انخفاض التضخم لمعدل 1.2% حسب بيانات أبريل/ نيسان 2013.
وتبين الأرقام المعلنة مؤخرًا من مصادر أوروبية، وصول عدد العاطلين في منطقة اليورو إلى 26.5 مليون عاطل، من بينهم 19.2 مليون عاطل في دول الاتحاد الأوروبي.
ولعل توقعات تحسن النمو الاقتصادي العالمي أو الأوروبي تؤكد على عودة العلاقة بين الظاهرتين في إطارها العكسي، حيث سترتفع معدلات النمو، لتخفض معدلات البطالة، ولكن قد يكون ذلك مصحوبا بزيادة في معدلات التضخم.
وفي ظل انخفاض معدلات أسعار الفائدة بأوروبا، نجد أن المستفيدين من ذلك هم الدول الغنية التي لا تعاني من أزمة تمويلية مثل ألمانيا وفرنسا، حيث حصلت شركات هذه الدول على ائتمان رخيص وبمعدلات كبيرة، بينما نجد أن الدول التي تعاني من الأزمة تتراجع فيها معدلات الائتمان، وهو الواقع الذي يتنافى معه الهدف من خفض سعر الفائدة.
ومما يساعد أوروبا على نهج سياسة خفض سعر الفائدة على اليورو حالة التخمة الادخارية التي تقودها البنوك المركزية والصناديق السيادية في الدول النفطية العربية وكذلك في الدول الآسيوية الكبرى مثل الصين، ودول جنوب شرق آسيا.
ولكن يلاحظ أن بعض الصناديق السيادية ، وعلى رأسها صندوق الصين ، تحاول تفادي هذه الآثار السلبية بالتوجه لشراء أصول أوروبية، تشمل العقارات والشركات الصناعية، وكذلك تتوجه لمناطق استثمار جديدة، وبخاصة في أفريقيا، حيث المواد الأولية الرخيصة.
ولكن في ظل معدلات النمو الاقتصادي المتواضعة في أوروبا، فسوف تستمر ظاهرة الائتمان الرخيص، وسوف يساعد على ذلك سيطرة البنوك المركزية وقدرتها على فرض سعر فائدة معين، وبخاصة في الأجل القصير، ولكنها قد تفقد هذه السيطرة في حالة الاقتراض طويل الأجل.
الاستثمارات العربية
في حالة من اللبس الشديد، لاتزال الأرقام الحقيقية للاستثمارات العربية في أوروبا وأمريكا غير معروفة على وجه الدقة، وتخضع لتقديرات تصدر منهنا وهناك، وهو ما يضع الحكومات العربية صاحبة الاستثمارات الأكبر في أزمة حقيقية أمام شعوبها. فلم يعد الوقت يسمح بتفرد الحكومات باتخاذ قرارات بشأن ثروات شعوبها، دون أن تكون هناك رقابة برلمانية أو شعبية على توظيف واستثمار هذه الثروات، فهي حق لهذه الشعوب وللأجيال القادمة من بعدهم.
فقد ارتفع سقف تقديرات الاستثمارات العربية في الخارج ليلامس سقف الـ 2 تريليون دولار، ومنذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 وهذه الأموال محل تساؤلات لدى الاقتصاديين، بل ولدى رجل الشارع العربي الذى بدأ يسأل :
- ما هي الخسائر الحقيقية التي منيت بها هذه الأستثمارات منذ وقوع الأزمة المالية العالمية فى أغسطس 2008 ؟
- ما هي خطط الحكومات العربية صاحبة هذه الاستثمارات لتوظيفها في أماكن ومجالات أخرى، لتحصل على العائد المناسب ماليًا وتنمويًا، وبخاصة أن هناك حاجة شديدة في الدول العربية للاستفادة من هذه الأموال؟.
وتشير الأرقام الخاصة بالأستثمارات البينية العربية إلى تواضعها قارنة بتقديرات حجم الاستثمارات العربية الخارجية، فقد بلغت الأستثمارات العربية النفطية خلال عام 2011 نحو 6.7 مليار دولار، في الوقت الذي تعاني فيه دول الربيع العربي من أزمات تمويلية صعبة، جعلت بعضها يلجأ إلى صندوق النقد الدولي لتدبير تمويل لفجواتها التمويلية، فقد وقعت كل من تونس واليمن على اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، ولازالت مصر تنتظر التوقيع على اتفاق مع الصندوق.
ولا يخفى على أحد التكلفة الاقتصادية والاجتماعية التي ستدفعها الدول العربية الموقعة على اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي، وبإمكان الاستثمارات العربية أن تحل مشكلات هذه الدول بنذر يسير من استثماراتها الخارجية، حتى لو كانت هذه المساهمة العربية في شكل استثمارات وليست قروض أو منح أو مساعدات.
وما يزيد من أزمة الاستثمارات العربية في الخارج، أن مواردها المالية عبر تدفقات النفط لازالت جيدة، ولكنها تعاني من تركز استثماراتها في أمريكا وأوروبا على الرغم من تدني العائد على هذه الاستثمارات، وقد تكون الدول العربية اتجهت لتنوع محافظها الاستثمارية في أمريكا وأوروبا، ولكن المشكلة الأكبر في الودائع الموجودة في الجهاز المصرفي أو في السندات الحكومية بأمريكا وأوروبا، وهي مبالغ لا يستهان بها ،إذ من الصعب تسييل هذه الأموال .
إن مصدر القلق على الاستثمارات العربية في أوروبا وأمريكا لا يقتصر فقط على عدم استفادة الدول العربية منها لتنفيذ مشروعات تنموية تحسن من الواقع المعيشي للشعوب العربية، ولكن هناك تحديات تتعلق بالدول العربية المصدرة للاستثمارات لكل من أوروبا وأمريكا، تتمثل في معدلات الزيادة السكانية المرتفعة في الدول النفطية العربية، حيث تشير التقديرات إلى أن معدل الزيادة السكانية في دول الخليج يتراوح بين 3.6% بالكويت ونحو 11% في قطر.
ومن جانب آخر فإن مستقبل النفط محفوف بنوعين من المخاطر، الأول تعرضه للنضوب على الأجلين المتوسط والطويل، والخطر الثاني الجهود المبذولة في مجال مصادر الطاقة البديلة، وبخاصة الطاقة النظيفة المتمثلة في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها.
وفي ظل هذه التحديات يكون متخذ القرار بشأن توظيف الاستثمارات العربية في أوروبا وأمريكا في مأزق بسبب تدني العائد على الاستثمارات فى البنوك الغربية، فمصدر تدفق هذه الاستثمارات ، وهو النفط، يعاني تحديات، وتفرض الزيادة السكانية ضغوطا جديدة على الموارد النفطية تتمثل في زيادة الإنفاق العام على البنية الأساسية، وعلى الخدمات العامة، وكذلك التغلب على معضلة كبيرة تتمثل في العمل على تنوع مصادر الدخل والإنتاج بالاقتصاديات النفطية العربية.
المخرج
تظل الاستثمارات المحكومة بألية الدين، أي سعر الفائدة على القروض، مصدرًا للعديد من المخاطر التي تُفشل العديد من جهود صانع السياسة الاقتصادية، وبالتالي لابد من الخروج من هذا الصندوق المغلق، والذي يجعل الاقتصاد العالمي يدور في حلقة مغلقة من مشكلات السياسات النقدية والمالية والتجارية والتوظيف والاستثمار.
ومن شأن التوجه نحو آلية المشاركة لإدارة الاستثمارات أن يكون البديل الأكثر أمانًا، فالغنم بالغرم، ولا يتحمل المخاطر طرف دون آخر، ومن هنا فعلى متخذ القرار بشأن الاستثمارات العربية أن يغير من توجهها سواء فيما يتعلق بآلية استثمارها بالتوجه نحو المشاركة وليس الدين، أو بمجالات الاستثمار بالبعد عن المضاربات، والبحث عن فرص بديلة للاستثمار في أوروبا وأمريكا، لتحقق عائد أفضل.
ولعل مجال الاستثمار بالدول العربية يمثل أحد المخارج لأزمة الاستثمارات العربية في الخارج، فأفضل سنة حققت فيها الاستثمارات العربية البينية معدلات جيدة كانت في عام 2007 حيث وصلت هذه الاستثمارات إلى نحو 37 مليار دولار.
ولكن في نفس الوقت فإن على الدول العربية التي تحتاج إلى استثمارات أن تهيئ مناخها الاستثماري ليكون جاذبًا للاستثمارات العربية، كما يجب أن ينظر إلى الاستثمارات العربية على أنها تبحث عن مصالحها في الربح، كما تبحث الدول التي تحتاج للاستثمار عن التنمية، فتكون العلاقة في إطار تبادل المصالح.