لا تذهب التقديرات الاقتصادية للخسائر المتوقعة من أزمة فيروس كورونا بعيدًا، وعادة ما تتحدث عن الأجل القصير، كما فعل صندوق النقد الدولي، حيث وضع تقديراته بنهاية الربع الأول من 2020، لكن منظمة "أسكوا" أعدت مؤخرًا موجزًا بعنوان "فيروس كورونا.. التكلفة الاقتصادية على المنطقة العربية" ذهبت فيه إلى أن الناتج المحلي الإجمالي العربي سيتراجع بنحو 42 مليار دولار بنهاية 2020.
وأشار الموجز كذلك إلى أنه "من المرجّح أن تخسر المنطقة أكثر من 1.7 مليون وظيفة في عام 2020، مع ارتفاع معدل البطالة بمقدار 1.2 نقطة مئوية. وخلافًا لآثار الأزمة المالية العالمية في عام 2008، من المتوقع أن تتأثر فرص العمل في جميع القطاعات. وقطاع الخدمات، المصدر الرئيسي لفرص العمل في المنطقة العربية، سيكون أكثر القطاعات تعرّضًا لآثار التباعد الاجتماعي، حيث تشير التقديرات إلى انخفاض نشاط هذا القطاع بمعدّل النصف".
وستظل فاتورة التكلفة الاقتصادية لأزمة كورونا على المنطقة العربية، مفتوحة لفترة تستمر طوال عام 2020- نظرًا لطبيعة الإدارة غير الحاسمة للتعامل مع مخاطر الأزمة، وكذلك غياب الوعي لدى شريحة ليست هينة من العرب، فضلًا عن ضعف الإمكانيات المادية لتوفير خدمات الرعاية الصحية، سواء لمواجهة خطر كورونا على الجانب الوقائي، أو رعاية المصابين.
وقد لاحظنا خلال الأيام القليلة الماضية أن الحكومات العربية سارعت باتخاذ قرارات من شأنها مساندة الجوانب الاقتصادية، وبخاصة النتائج السلبية التي أصابت قطاع الخدمات في مقتل، وعلى رأس هذه الأنشطة الخدمية، قطاع الطيران والسياحة، وما يرتبط بهما من أنشطة اقتصادية أخرى.
لكن من المشكلات الكبيرة التي أشار إليها موجز "أسكوا" زيادة عدد العاطلين بنحو 1.7 مليون عاطل، وتأتي خطورة الأمر، من كون المنطقة العربية من أعلى معدلات البطالة على مستوى العالم، حيث أشار التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2019، إلى أن معدل البطالة في المنطقة العربية بلغ 10%، وهو ضعف المتوسط العالمي، وتتفاقم مشكلة البطالة بشكل أكبر في شريحة الشباب، حيث تصل إلى نسبة 26%.
وكون أزمة كورونا سوف تضيف 1.7% مليون عامل إلى صفوف العاطلين، فإن ذلك يفتح ملف العاملين في سوق العمل غير المنظم، وكيف سيتم التعامل معهم في ظل تراجع النشاط الاقتصادي، وتوقف أو بطء المجالات التي تعمل فيها هذه العمالة.
إن العاملين في القطاع المنظم، والذين سيتم تسريحهم، كما حدث في قطاع السياحة، قد يكون لديهم نظام تأمين اجتماعي يوفر لهم قسطًا من الحماية، ولو نصف الراتب لفترة محددة، ولكن العمالة بسوق العمل غير المنظم، وبخاصة من الحرفيين، أو الباعة الجائلين، سيكون أمامهم مشكلة كبيرة، في تدبير أوضاعهم المعيشية الأساسية.
وهذه الفئة ليست بالقليلة، فتقرير الآفاق الاقتصادية العالمية الصادر عن البنك الدولي مطلع عام 2019، قدر نسبة هذه العمالة بنسبة 70%، في 99 دولة نامية، من بينهم 15 دولة عربية، وأن نصف هذه النسبة يعملون لدى أنفسهم، أي أنهم أصحاب الأعمال التي يديرونها.
ومن هنا يتضح حجم المشكلة، فإذا كان عدد العاملين في المنطقة العربية يقدر بنحو 118 مليونا، فإن نصيب العاملين في سوق العمل غير المنظم، من هذا العدد حسب تقديرات البنك الدولي، يقدر بنحو 82 مليونا.
وباتخاذ قرارات من قبل بعض الحكومات العربية، بحظر التجول كما هو في تونس والأردن والكويت وليبيا، أو تقليص ساعات العمل، أو وقف بعض الأنشطة كما في مصر والسعودية والجزائر، ستكون مشكلة العمالة في هذا القطاع كبيرة.
للأسف الشديد، لا توجد روابط عمالية، تقوم على شؤون هذه الفئة من العمالة، بسبب غياب ثقافة العمل المجتمعي في المنطقة العربية، كما أن الحكومة لا تشجع هذه الفئة على تنظيم نقابات عمالية تحمي حقوقها، لأن الحكومات العربية عادة ما تريد أن تكون مثل هذه التنظيمات تحت سيطرتها، وكونها عمالة غير نظامية، ولا تحتاج إلى الحكومة في شيء، فمن الصعب السيطرة عليها.
فهذه الفئة من العمالة، لا تحظى بوجود تأمين اجتماعي أو صحي، وبذلك يجتمع عليهم الخطر من الجانبين، وبغض النظر عن مسألة المعاش أو المساعدات، فإن هذه الفئة تعتمد بشكل رئيس على دخلها اليومي، أو في أحسن الأحوال، الدخل الأسبوعي، وتوقف نشاطها يعني، أن الأوضاع المعيشية لهذه الشريحة معرضة للخطر، وبخاصة فيما يتعلق بالمتطلبات الرئيسة، من طعام وشراب، وعلاج، فضلًا عن إيجار السكن، ورسوم الخدمات، من مياه وكهرباء وغاز وصرف صحي.
قد تسمح بعض الحكومات العربية، بتأخير سداد التزامات الخدمات الحكومية للمنازل، من مياه وكهرباء وغاز وصرف صحي، لغير العاملين بالحكومة، باعتبارهم من أصحاب الدخول المتقلبة، وأنهم تأثروا بشكل كبير بوقف بعض الأنشطة الاقتصادية، أو فرض حظر تجول. ولكن لم تعلن أي من الحكومات العربية عن إعفاء مواطنيها من هذه الرسوم، في ظل استمرار مخاطر فيروس كورونا.
تميزت الدول العربية، بوجود مساحة كبيرة في مجال التكافل الاجتماعي، بسبب العادات والتقاليد المنبثقة من الدين الإسلامي، وهذا ما سجلته دراسة للبنك الدولي إبان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حيث كانت المنطقة العربية، من أقل المناطق على مستوى العالم، تأثرًا بالأضرار الاجتماعية للأزمة، وأرجعت دراسة البنك الدولي، إلى التكافل الاجتماعي الذي يفرضه الإسلام.
وإذا كانت وسائل الإعلام، قد نقلت عن تبرعات لكبار رجال الأعمال في العالم الغربي لمكافحة كورونا، وأتت هذه التبرعات في مجال المواجهة الصحية، فإن الوضع في الدول العربية، لم يبرز بالشكل الذي يتناسب مع حجم الأزمة، بعد من خلال مشاركات رجال الأعمال، أو غيرهم من رموز المجتمع، عبر مساهمتهم بتبرعات سخية، للمواجهة الصحية للفيروس، أو للمساهمة في الجوانب الاجتماعية، والتي من بينها رعاية العمالة بسوق العمل غير المنظم.
كشفت أزمة كورونا، ومخاطرها على الشريحة الكبيرة من سوق العمل العربي، أن السياسات التي أعلنت عنها الحكومات بسعيها لتحويل القطاعات غير الرسمية إلى الاقتصاد الرسمي، لم تؤت ثمارها، وأنها كانت مجرد شعارات، لندوات ومؤتمرات، أو أنها كانت لافتة لتعظيم العوائد الحكومية من الضرائب والرسوم.
وكان بوسع الحكومات العربية، ألا تكون عاجزة في هذه الأيام، أمام تقديم الخدمات لهذه الشريحة الكبيرة من العاملين بسوق العمل غير المنظم، فوجود نقابات لفئات العاملين بهذه السوق، كان كفيلًا أن يقدم لهم خدمات إعانات البطالة، أو تأمين صحي، مما يخفف من وطأة الأزمة على هذه الحكومات.
وقد يكون الدرس المستفاد بعد الخروج من أزمة كورونا بمشيئة الله، أن تتخذ الحكومات العربية خطوات جادة في ضم هذه الفئة إلى الاقتصاد الرسمي، بغض النظر عن العائد الضريبي من الخطوة، وإن لم يكن ذلك متاحًا، فعلى الحكومات، أن تشجع هذه الفئة على إقامة نقابات عمالية، بحيث تضمن لهم على الأقل الحدود الدنيا من الحماية الاجتماعية، من معاش بعد الخروج من سوق العمل، أو في مثل هذه الأزمات، وكذلك خدمات التأمين الصحي، بدلًا من الفراغ الحالي المليء بالمشكلات الحياتية.