تفاوتت ردود أفعال الدول العربية مع تداعيات أزمة كورونا، إلا أن الأمر في النهاية، فرض تكاليف اقتصادية على جميع الاقتصاديات العربية، منها خسائر محققة لقطاع الطيران والسياحة، وأدت الأزمة كذلك إلى انهيارات في البورصات العربية.
وأُجبرت الحكومات العربية على تخصيص مبالغ إضافية للرعاية الصحية، واتخاذ تدابير اقتصادية لدعم القطاعات المتضررة، مثل القرارات الخاصة بتأجيل أقساط الشركات للبنوك، أو تخفيض أسعار الفائدة، لتسهيل الاقتراض للأفراد والشركات لمواجهة حالة الركود، التي ينتظر أن تزداد خلال الأيام القادمة.
وسوف تفرض أزمة كورونا على البنوك ومختلف المؤسسات المالية، أن تضع في الحسبان، السيناريوهات السيئة للأزمة، وبالتالي يتوقع أن تزيد معدلات الإفلاس، وترتفع معدلات تأخر سداد الالتزامات المالية للشركات والأفراد، وقد تكون فترات السماح التي أعطتها البنوك لعملائها بالتأخير في سداد الالتزام، والتي تقدّر بستة أشهر، غير كافية.
كذلك قد لا تكون إجراءات السياسات النقدية التي اتخذتها العديد من الدول العربية، بتخفيض سعر الفائدة، لتشجيع الاستهلاك وإنعاش الطلب الفعال، غير كافية في ظل غياب الشمول المالي عن قطاع عريض من المجتمع، وكذلك اتساع شريحة الفقراء ومحدودي الدخل، الذي لا يتعاملون مع القطاع المصرفي، أو لا تتوفر لديهم الضمانات الكافية للاقتراض من البنوك، ولا حتى المؤسسات المالية غير المصرفية، المعنية بالإقراض الصغير، أو متناهي الصغر.
ولا يزال الأمر في إطار الأجل القصير للأزمة، ولا يُعرف سيناريو محدد تنتهي إليه مآلاتها، وبالتالي فالتداعيات السلبية للأزمة على الاقتصاديات العربية تظل قابلة للزيادة، سواء بالنسبة للحكومات أو الأفراد، خاصة في ظل حالة عدم الثقة بين المجتمعات العربية والحكومات.
وأيًا كانت الفترة الزمنية التي ستستغرقها الأزمة، فهي بلا شك ستنتهي، ولكنّ هناك أموراً تفرض نفسها لتعيد الدول العربية النظر في أولوياتها الاقتصادية، ومن هذه العوامل ما يلي:
• الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة: منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، اتجهت كل الدول العربية، لتقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وتركت الفراغ الناتج عن ذلك، كمهمة رئيسة للقطاع الخاص، لكن تبين أن القطاع الخاص لم يكن مؤهلًا بالإمكانيات اللازمة لذلك.
كما لم تتح السياسات الاقتصادية للأفراد الدخول المناسبة التي تمكنها من الحصول على الخدمات الضرورية وفق أسعار القطاع الخاص، ولا تزال قضية الخلل بين الأجور والأسعار، من أهم ملامح أزمة تبني الدول العربية لاقتصاديات السوق.
وفي ضوء تراجع دور الدولة، وعدم كفاءة القطاع الخاص، للقيام باحتياجات الدول العربية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، عانى المواطن العربي، من البطالة والفقر، وتدني خدمات الصحة والتعليم والبنية الأساسية، وزادت فاتورة هذه الخدمات من الدخول الضعيفة للأفراد.
ومن الضروري أن تراجع الدول العربية نفسها في ما يتعلق باتباع أجندة المؤسسات الدولية (البنك والصندوق الدوليين) في رسم السياسات الاقتصادية ومشروعات التنمية، فقد ثبت أنها أدت إلى مزيد من هشاشة الاقتصاديات العربية.
فالرعاية الصحية، تستلزم حضورا قويا للدولة، من توفير المستشفيات، والخدمات الصحية، وليس فقط في إطار توفير الأطباء والتمريض والأدوية، ولكن كذلك في الإنفاق على البحث العلمي في قطاع الصحة والدواء، فالجميع سيدفع فاتورة غالية، إذا ما ظهرت أمصال أو لقاحات ضد فيرس كورونا، عبر الدول الغربية، أو الشركات متعددة الجنسيات.
كشفت أزمة كورونا ضعف إمكانيات الدول العربية في مواجهة الأزمات على مستوى الرعاية الصحية، فضلًا عن أن إنتاج الدول العربية من الدواء بحدود 11 مليار دولار فقط، وفق بيانات عام 2019. كما أن الدول العربية تستورد ما نسبته من 65% - 80% من احتياجاتها من الدواء، ولوحظ أن الأموال التي ينفقها الفرد العربي على الرعاية الصحية تحظى الأدوية منها بنسبة تتراوح ما بين 60% - 80%.
ونخلص من هذا إلى أن الاقتصاديات العربية، مجرد سوق لاستيراد الأدوية من الخارج، وأن إنتاجها ضعيف، ولا يقوى على تحقيق ما يسمى بالاعتماد على الذات في قطاع الدواء، والذي يعد من القطاعات الاستراتيجية.
ومن غير المقبول أن تظل الدول العربية تعتمد على تدبير احتياجاتها من الغذاء من الخارج، وبخاصة في ظل مثل هذه الأزمات، التي تفرض على الدول المصدرة للغذاء، أن تعيد ترتيب أولوياتها وتتجه لتدبير المزيد من الاحتياطيات الاستراتيجية لمواطنيها، فضلًا عن التكاليف المنتظر زيادتها في النقل والتأمين على الصادرات خلال الفترة المقبلة.
ووفق أرقام التقرير الاقتصادي العربي الموحد، فالفجوة الغذائية للعالم العربي بلغت 33.6 مليار دولار، في عام 2017، وهذا الرقم قابل للزيادة في ظل أزمة كورونا، حيث يتوقع أن يزيد الطلب على الغذاء خلال الفترة المقبلة.
وبغض النظر عن عقلية الاستسلام التي تتعامل معها الدول العربية مع قضية الغذاء، لا بد من تبني استراتيجية جديدة، تعمل على زيادة مساهمة الإنتاج المحلي في مجال الأمن الغذائي، فمن غير المقبول أن يجتمع على الناس تداعيات أزمات مختلفة، تزيد من أعباء معيشتهم.
• الاهتمام بالاقتصاد الحقيقي: على الرغم من أن هذا الأمر ذكر بكثرة عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وكذلك بعد أزمة انهيار أسعار النفط عام 2014، إلا أنه لم يؤخذ على سبيل الجد، وعادة الحكومات العربية تمارس نفس السياسات الخاطئة من الاعتماد على القطاعات شديدة التقلب بالعوامل الخارجية، مثل السياحة والعقارات، من دون بناء قواعد إنتاجية قوية، تخفف من حدة التقلبات الخارجية، وبخاصة في وقت الأزمات.
لقد أهدرت الدول العربية وقتًا كبيرًا، خلال الفترة الماضية في الحديث عن استراتيجيات، غير مفعلة على أرض الواقع، مثل التنوع الاقتصادي في الدول النفطية العربية، أو الانفتاح على الخارج في الدول العربية غير النفطية.
بينما الطريق السليم لاقتصاد حقيقي في الدول العربية، يتطلب الاهتمام بالتعليم والنهوض به، بما يؤدي إلى تراكم معرفي وإنتاج التكنولوجيا، ووجود يد عاملة ماهرة. وأن تنتقل قطاعات الزراعة والصناعة إلى تحقيق قيمة مضافة.
• حتمية العمل المشترك: كغيرها من الأزمات، كشفت أزمة كورونا عن غياب تام لمؤسسات العمل العربي المشترك، فلم نلمس دورًا لاتحاد الأطباء العرب مثلًا، أو المؤسسات المالية والتنموية العربية، كصندوق النقد العربي، أو الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، وغيرهما.
لقد وجدنا المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليين) ترصد 62 مليار دولار لموجهة أزمة فيرس كورونا، بينما المؤسسات العربية، لم تعلن عن إجراء مماثل يساعد الدول العربية، وبخاصة شديدة الفقر منها، والتي يتوقع أن تداهمها الأزمة.
كما لم تتداع الدول العربية عبر وزارات الصحة، أو المؤسسات الطبية التعليمية، للتعامل مع الأزمة، فالتعامل القطري كان هو المشهد البارز، في حين أن الأمر كان يقتضي، أن تتضافر الجهود، فالأزمة عالمية، وتداعياتها تهدد الجميع.
ومن هنا فإعادة النظر في دور مؤسسات العمل العربي المشترك، لا بد أن تكون هدفًا لترتيب أولويات الاقتصاديات العربية، من حيث الدور والممارسة، فمن غير المقبول أن تظل هذه المؤسسات على ما هي عليه من أدوار سلبية منذ نشأتها في خمسينيات القرن العشرين.
ختامًا: فأزمة كورونا سيكون لها ما بعدها، فإما صحوة تدفع بالاقتصاديات العربية إلى الطريق الصحيح، أو مزيد من التخلف والتبعية.