الدول العربية النفطية تمتلك 56.5% من الاحتياطات المؤكدة من النفط على مستوى العالم وفق إحصاءات عام 2019.
تمر أسعار النفط في السوق الدولية بموجات ارتفاع قابلتها موجات هبوط، ولكن الفترات الزمنية مختلفة بين الارتفاع والهبوط، ولعل الفترة من 2003 إلى 2013 كانت الأفضل من حيث استمرار الصعود، مما مكّن الدول النفطية العربية من سداد ديونها، وتكوين أرصدة كبيرة من النقد الأجنبي، فضلا عن زخم مالي بصناديقها السيادية.
ولكن الفترة من منتصف 2014 وحتى منتصف 2021 كانت عصيبة على الاقتصادات النفطية العربية، حيث تبدّل الحال إلى عجز بميزانيات تلك الدول، واضطرت للسحب من أرصدتها للنقد الأجنبي، وكذلك اتجهت للاقتراض من السوقين المحلية والخارجية.
تلك الأمور جعلت صندوق النقد الدولي يتوقع في فبراير/شباط 2020 جفاف الثروات المالية لدول الخليج خلال 15 عاما، إذا استمرت النظم المالية بها على ما هي عليه في ذلك التوقيت، ومما يدلل على تبعات انخفاض أسعار النفط على الدول العربية خلال الفترة الماضية ما ذهبت إليه شركة "كامكو إنفست" (Kamco Invest) بأن دول الخليج "حكومات وشركات" مطالبة بسداد قيمة سندات وصكوك بنحو 321.4 مليار دولار خلال الفترة 2021-2025، منها 157.1 مليار دولار مستحقة على الحكومات، ونحو 164.3 مليار دولار مستحقة على الشركات.
ولكن الوضع بعد العشرة الأولى من أكتوبر/تشرين الأول 2021 تغيّر، حيث تشهد أسعار النفط في السوق الدولية طفرة ملموسة، وتجاوزت أسعار النفط سقف 80 دولارا للبرميل، وثمة توقعات بأن تستمر هذه الأسعار خلال الفترة المتبقية من 2021، وأن ترتفع إلى 90 دولارا لبرميل النفط خلال 2022.
بلا شك التوقعات مربكة، على الرغم من إيجابياتها، فمنذ يونيو/حزيران 2021 وأسعار النفط في تزايد مستمر، ولكن كان طموح الكثيرين لا يتجاوز سعر 75 دولارا لبرميل النفط، غير أنه في ضوء التجارب السابقة للدول النفطية العربية بحظوتها بفورات سعرية أدت إلى وفورات من النقد الأجنبي وزيادة الثروة، يطرح السؤال التالي: كيف تستفيد هذه المرة بصورة تؤدي إلى عدم تعرضها لتجارب قاسية في حالة تحول الارتفاع في أسعار النفط إلى هبوط؟ وكيف تغير من وضعها المالي والاقتصادي ليكون محصنًا ضد تقلبات السوق الدولية؟
لا يزال النفط العربي يمثل أهمية إستراتيجية على الصعيد العالمي من حيث الإمدادات، وكذلك على صعيد الاقتصادات العربية النفطية نفسها، فحسب بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، تمتلك الدول العربية النفطية 56.5% من الاحتياطات المؤكدة من النفط على مستوى العالم، كما تمتلك نسبة 26.7% من احتياطات العالم من الغاز الطبيعي.
أما على صعيد الإنتاج، فتقدم الدول العربية النفطية 28.4% من حجم الإنتاج العالمي من النفط، كما تقدم نحو 14.9% من إنتاج الغاز العالمي.
تجاوزت أسعار النفط في السوق الدولية يوم الاثنين 11 أكتوبر/تشرين الأول 2021 حاجز 80 دولارا، حيث بلغ سعر خام برنت 83.2 دولارا للبرميل، وبلغ سعر الخام الأميركي 80.50 دولارا للبرميل. وفي ضوء مقارنة تلك الأسعار بما كانت عليه في يناير/كانون الثاني 2021، نجد أن هناك فرقًا كبيرا، فخام برنت كان بحدود 55 دولارا للبرميل، أي أنه في أكتوبر/تشرين الأول الحالي زاد سعره بنحو 28.2 دولارا، وتبلغ هذه الزيادة 51.2% بالمقارنة بين الشهرين.
أما الخام الأميركي فبلغ في يناير/كانون الثاني 2021 نحو 52.4 دولارا للبرميل، وفي أكتوبر/تشرين الأول الحالي زاد سعره بنحو 28.1 دولارا، وتبلغ هذه الزيادة 53.6% بالمقارنة بين الشهرين.
ولكن إذا أخذنا سيناريو ارتفاع سعر برميل النفط إلى 90 دولارا للبرميل في الاعتبار، فإن نسبة الزيادة ستكون مختلفة بلا شك، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا السيناريو مستبعد الحدوث في 2021، ولكن يتوقع أن يتحقق في 2022.
وبالتالي إذا ما عقدنا المقارنة بين أسعار يناير/كانون الثاني 2021 عند 55 دولارا لخام برنت و52.4 دولارا للخام الأميركي، فإن ارتفاع الأسعار إلى 90 دولارا يعني تحقيق زيادة بنحو 35 دولارا لخام برنت، ونحو 37.6 دولارا للخام الأميركي، وستبلغ نسبة الزيادة على التوالي 63.6% و71.7%.
ولا بد أن نأخذ متوسط الزيادة في الاعتبار حتى تكون الحسابات معبرة عن الواقع، فكون الأسعار وصلت في أكتوبر/تشرين الأول الجاري لما يزيد عن 80 دولارا، فينبغي أن نعي أنها كانت في يناير/كانون الثاني الماضي بحدود 55 دولارا، ولذلك سيكون المتوسط المتوقع في ضوء البيانات المنشورة بالتقارير الشهرية لسوق النفط الصادرة عن منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" (OPEC) عن الفترة من يناير/كانون الثاني إلى سبتمبر/ أيلول 2021 بحدود 66.2 دولارا للبرميل.
ولذلك وجدنا وكالة "ستاندر آند بورز" (Standard and Poor’s) تتوقع أن ينخفض العجز في الميزانيات الخليجية في عام 2021 إلى 80 مليار دولار، مقابل 143 مليارا في عام 2020.
ومعنى ذلك أن الأزمة المالية للدول العربية لن تنفرج بشكل كبير إلا إذا استمرت الأسعار أعلى من 80 دولارا للبرميل لفترة طويلة حتى نهاية 2025، حتى تتمكن الدول العربية من إصلاح وضعها المالي، وكذلك تكوين فوائض يمكن من خلالها تنفيذ خطط تنموية أو استثمارية في الاتجاه الصحيح.
تشير كافة التوقعات إلى أن الطلب على النفط في السوق العالمي سوف ينتعش خلال الفترة القادمة على الأقل خلال عامي 2022 و2023، وهو ما يمثل فرصة للدول العربية النفطية للاستفادة من ارتفاع الأسعار فوق حاجز 80 دولارا للبرميل، وتوقعات بوصوله إلى 90 دولارا للبرميل.
وتتمثل الفرصة في الأجلين القصير والمتوسط في عدة صور، منها التخلص من الديون الخارجية والمحلية قصيرة ومتوسطة الأجل، لتجعل صانع السياسة المالية في فسحة للتخطيط لإستراتيجيات مهمة، مثل تنويع الاقتصادات النفطية العربية.
وكذلك العودة إلى تراكم أرصدة احتياطي النقد الأجنبي، وأيضا دعم حسابات الصناديق السيادية، ولكن هذه المرة ينبغي أن يعاد النظر في سياسة الاستثمار الخاصة باحتياطات النقد، أو أرصدة الصناديق السيادية، لتبتعد عن المضاربات في أسواق المال أو العقارات أو الأنشطة السياحية، فلا بد أن يكون للدول النفطية العربية استثمارات حقيقية في مجال التكنولوجيا، سواء داخل كل بلد، أو في شكل تكتل عربي، يمكن أن يحقق قيمة مضافة عالية لتلك الدول، وفي الوقت نفسه يؤمن لها عوائد تقيها من تقلبات السوق الدولية.
سيناريو ارتفاع أسعار النفط يعبر عنه الواقع الحالي بقوة، ولكن السوق الدولية يكتنفها حالة من الغموض حول أكبر اقتصاديين في العالم وهما أميركا والصين، وبخاصة الصين التي تعاني من أزمة إمدادات في المواد الأولية، وبخاصة الطاقة، وهو ما سيؤثر على الإنتاج في الصين وعلى الصادرات الدولية، كما أن أميركا تعيش أزمة حقيقية في مسألة دينها العام الذي تفاقم بشكل كبير، وفاقت ناتجها المحلي، وتبذل جهودا كبيرة لإنعاش الاقتصاد الأميركي.
والتهديد المحتمل بأن يوقف سيناريو التفاؤل واستمرار ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، هو تفاقم أزمة الصين ودخول العالم في أزمة اقتصادية عالمية، وهو سيناريو ليس مستبعدا في ضوء أزمة أكبر شركة عقارات في الصين، والتي تبلغ ديونها 300 مليار دولار، وهي معرضة للإفلاس بنسبة كبيرة، وهو ما يستدعي الظلال الكئيبة للأزمة المالية العالمية عام 2008، والتي انطلقت من أميركا وانعكست آثارها السيئة على كافة اقتصادات العالم.
وإذا ما وقع هذا التهديد وحلت أزمة عالمية، أو حتى اقتصرت الأزمة على مستوى الصين، فسوف يؤثر ذلك سلبيا على الطلب على النفط، وبالتالي عودة انخفاض أسعاره في السوق الدولية، واستمرار الاقتصادات النفطية العربية في قبضة أزمتها المالية