التحدي الأكبر الذي يمكن أن يمثل أهم البدائل أمام الدول النامية هو أن تقوم بعمليات حقيقية لمكافحة الفساد المنتشر في أروقتها، وكذلك ضرورة تبنّي برامج تنموية تنتشل الفقراء من الواقع الاقتصادي والاجتماعي المؤلم
منذ أن سيطرت المؤسسات المالية الدولية على مقدرات الاقتصاد العالمي، مع سيادة العولمة الاقتصادية في مطلع تسعينيات القرن الـ20، أصبحت قضية الدعم تؤرق العديد من الدول النامية والصاعدة، بسبب ما يمارس على هذه الدول من ضغوط، لإعادة النظر في فاتورة الدعم.
وفي منطقتنا العربية، تمثل قضية الدعم إحدى القضايا الضاغطة اجتماعيًا، فأصبح قرار تقليص الدعم استجابة لشروط المؤسسات الدولية بمنزلة موجات تؤدي إلى اتساع رقعة الفقر.
وثمة إشكالات متعددة تتعلق بقضية الدعم في الدول النامية، نتناولها في السطور الآتية:
من المفاهيم الخاطئة التي يروّج لها أن قضية الدعم مرتبطة بإحدى سمات الدول النامية، وهي تراجع الدخل أو محدوديته، والحقيقة أن قضية الدعم موجودة ومنذ أزمنة بعيدة في الاقتصادات المتقدمة.
ففي أميركا مثلًا، توجد صور مختلفة للدعم، مثل دعم الطعام، ودعم الرعايا الصحية، ودعم إعانة البطالة، بل كان صلب برنامج الرئيس الأسبق أوباما مشروع "أوباما كير" للرعاية الصحية، الذي دعمته الموازنة الأميركية بمليارات الدولارات.
وليس هذا فحسب، ففي بريطانيا كذلك توجد نظم الحماية الاجتماعية، سواء للفقراء، أو لأبناء الأسر الفقيرة التي لا بد من أن تلتزم بإرسال أبنائها للتعليم، وكذلك دعم إعانة البطالة المعمول به في بريطانيا، وغيرها من الدول الأوروبية الرأسمالية.
ولا يقتصر الدعم في أميركا وأوروبا على الجوانب الاجتماعية فقط، بل يُقدم للمنتجين، إذ يُقدّم الدعم للمزارعين، لحمايتهم من المنافسة الدولية.
يقدّم الدعم للأغنياء، سواء في الدول الغنية أو الفقيرة، فهناك صور عدة، منها دعم الصادرات، بحيث يحافظ المصدرون على حصصهم التصديرية، ويرجى من هذا الدعم الحفاظ على فرص العمل، وعلى موارد البلاد من العملات الصعبة، ففي مصر تبلغ مخصصات دعم الصادرات نحو 6 مليارات جنيه سنويًا (الدولار يعادل 15.70 جنيها).
وثمة صور أخرى لدعم الأغنياء، تأتي في إطار تقديم أسعار أقل لمستلزمات الإنتاج التي يحصلون عليها من الداخل، أو تخفيض أسعار الطاقة لمؤسسات الإنتاج مقارنة بالأسعار الحقيقية، وكذلك تقديم بعض الإعفاءات الخاصة بالجمارك أو الضرائب، بغية حماية الصناعة.
دعم الفقراء بالدول النامية -الذي عادة ما يتخذ صورة الدعم السلعي- تعتريه مشكلات متعددة، على رأسها الفساد الذي تتربح منه فئات معينة.
وفي ظل روتينية العمل الحكومي بالدول النامية، ليست هناك عمليات متابعة دقيقة لقاعدة بيانات المستفيدين من الدعم السلعي، فتتضخم فاتورته تضخما كبيرا بالموازنة العامة.
نعم، ليست فاتورة الدعم هي فقط من تثقل كاهل الموازنة العامة في الدول النامية، وليست هي المشكلة الوحيدة، ولكنها في ظل الأداء الروتيني تصبح معضلة، قد يتصور من يتصدّى لمعالجتها أن لا حل لها سوى إلغاء الدعم.
ففي لبنان كان المصرف المركزي يدفع 800 دولار كل شهر لتأمين توفير احتياجات البلاد من الوقود، ولكنه توقف عن هذا الأمر في مطلع أغسطس/آب 2021، فأدى ذلك إلى تصاعد الأزمة السياسية هناك، ولاتزال فاتورة الدعم السلعي في مصر تبلغ 87 مليار جنيه مصري.
تهتم المؤسسات المالية الدولية بضبط العجز بالموازنة العامة، وكذلك معالجة العجز بميزان المدفوعات فقط، من دون النظر إلى ما يترتب على سياساتها من أضرار اجتماعية.
فتقترح المؤسسات الدولية على الحكومات تقليص الدعم السلعي أو التخلص منه بالكلية، نظير تقديم بعض المزايا الاجتماعية للمهمشين والفقراء.
والحقيقة، أن طرح المؤسسات المالية الدولية لا يراعي التبعات الاجتماعية، وتأثير عمليات تقليص أو إلغاء الدعم على الفقراء، فما يطرح من برامج للرعاية الاجتماعية عادة لا يغطي إلا شريحة محدودة من الفقراء والمتضررين من إلغاء الدعم، كما أن المبالغ المصروفة كمساعدات لبعض المتضررين لا تفي احتياجات أسبوع واحد في الشهر من الضروريات للأسر الفقيرة.
فلو أن المؤسسات الدولية ألزمت الحكومات في الدول النامية بالقضاء على الفساد في منظومة الدعم السلعي، وطالبتها بتنقية قاعدة بيانات المستفيدين لكان ذلك أجدى.
يتم عرض عملية إلغاء الدعم السلعي على أنها المنقذ للوضع المالي في البلاد، مع تقديم وعود غير حقيقية من قبل الحكومات، بأنها توجه جزءًا من مخصصات الدعم الملغاة إلى بنود أخرى أكثر أهمية، مثل التعليم والصحة
والواقع لا يشهد لذلك؛ بل يتحقق فقط تقليص الدعم السلعي أو إلغاؤه، كما حدث لدعم المياه والكهرباء في مصر، إذ تم إلغاء الدعم لهما بالكامل، وتقلص دعم الوقود من 120 مليار جنيه إلى 18 مليار جنيه فقط.
والمفترض، في ظل وجود شرائح لا يمكن تجاهلها من الفقراء بالمجتمعات العربية، أن تُصلح الحكومات منظومة الدعم السلعي، أو تنتقل إلى الدعم النقدي. ولكن إذا تم تقليص الدعم بشكل كبير، أو ألغي، من دون الانتقال إلى الدعم النقدي، فإن النتيجة هي ارتفاع معدلات التضخم ارتفاعا كبيرا، واتساع رقعة الفقر.
إذا ما كان الحل الوحيد للحكومات بالبلدان النامية التخلص من الدعم السلعي بالكلية، من أجل تحقيق شروط المؤسسات المالية الدولية، بتوفير نوع من ضبط عجز كل من الموازنة وميزان المدفوعات، فلا يعني ذلك الاكتفاء بالإجراءات الهزيلة لما يسمى بالحماية الاجتماعية التي تقتصر فقط على صرف مساعدات مالية شديدة الضآلة.
فيمكن الانتقال إلى الدعم النقدي، ولكن ذلك يتطلب وجود مرحلة انتقالية، لإعداد قاعدة بيانات قوية ومرنة، يمكن من خلالها إيصال الدعم إلى مستحقيه بالفعل، فكلنا يتابع مثلًا ما يحدث في إعانات البطالة في أميركا، وكيف أن الأفراد يحدثون بياناتهم في كل شهر، دخولًا وخروجًا في قاعدة البيانات وطلب الإعانة.
والتحدي الأكبر الذي يمكن أن يمثل أهم البدائل أمام الدول النامية هو أن تقوم بعمليات حقيقية لمكافحة الفساد المنتشر في أروقتها، وكذلك ضرورة تبنّي برامج تنموية تنتشل الفقراء من الواقع الاقتصادي والاجتماعي المؤلم، وهذا ليس بمستحيل، فقد تحقق في البرازيل، حينما سعى رئيسها "لولا سلفيا" إلى أن يكون لدى بلاده معدل فقر يصل إلى "صفر" خلال 8 سنوات.
الدعم النقدي قد يأخذ صورا مختلفة، فليس بالضرورة أن تحصل الأسرة الفقيرة أو الفرد المستحق للدعم على مبالغ نقدية في يده، أو تحول على حسابه، ولكن قد تمنح في شكل "بونات" مخصصة للرعاية الصحية، أو شراء الطعام، بحيث لا يمكن استخدامها في غير الأغراض المحددة لها.
وهناك نوع آخر من الدعم النقدي يسمى الدعم المشروط، وأشهر صوره ذلك الدعم الذي يُقدم للأسر الفقيرة، لكي ترسل أبناءها للتعليم الإلزامي، فإذا التزمت بذلك استحقت الدعم، وإذا لم تلتزم حرمت منه، وهذا النوع له الغرض منه مواجهة ظاهرة عمالة الأطفال، وكذلك استفادة الأطفال من التعليم في المراحل الأساسية، مما يؤدي إلى محو أميتهم.
وقد طبق هذا النوع من الدعم بنجاح في البرازيل، كما تبنّت منظمة العمل الدولية هذا النوع من الدعم في أكثر من دولة لمكافحة عمالة الأطفال