لم يكن أداء التجارة العالمية منذ نهاية عام 2018 مبشرا، حيث جاءت توقعات الأداء منذ ذلك التاريخ سلبية، فقد انخفض معدل نمو التجارة العالمية إلى 1.2% بنهاية 2019، كما قدرت قيمة التجارة العالمية في نهاية عام 2018 بنحو 19.5 تريليون دولار.
وحديثا صرحت مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا بأن الاقتصاد العالمي دخل مرحلة الركود بالفعل، وفي ضوء أزمة وباء كورونا أتت تصريحات مدير منظمة التجارة العالمية روبيرتو أزيفيدو متشائمة بشأن أدائها في 2020، بعد أن عصفت أزمة كورونا بالاقتصاد العالمي.
ورغم عدم تطرق أزيفيدو إلى معدلات محددة، وتوقعاته بأن الخسائر الاقتصادية المتوقعة بسبب أزمة كورونا ستفوق خسائر عام 2008، فإن تقديرات خرجت من مؤتمر التجارة والتنمية، أشارت إلى تراجع الصادرات العالمية في فبراير/شباط الماضي بنحو 48 مليار دولار، بسبب وقف إمدادات الصناعة الصينية للخارج.
ويبقى الحديث عن مستقبل التجارة العالمية، بعد أزمة كورونا، غير متعلق فقط بمدى خروج الاقتصاد العالمي من حالة الركود، ولكن الأمر سيمتد لينال من مبدأ حرية التجارة، وكذلك دور منظمة التجارة العالمية.
فقضية حماية التجارة ظلت تؤرق الاقتصاد العالمي منذ مجيء الرئيس الأميركي دونالد ترامب للسلطة، وكانت أحد الأسباب التي عانت منها دول عدة، وبخاصة الصين والاتحاد الأوروبي.
ولم يكن دور منظمة التجارة العالمية في هذا الخلاف بارزا، كما أن تداول القضية كان قاصرا على أطرافها من الدول، فضلا عن تناولها خلال مؤتمرات مجموعة العشرين الاقتصادية، وكذلك مؤتمرات المؤسسات المالية الدولية (البنك والصندوق الدوليان).
في إطار السيناريوهات المفتوحة لأزمة كورونا، فلا يمكن التوقع على وجه الدقة مدى قدرة الدول على السيطرة على الوباء، والانتقال إلى الأداء الطبيعي للنشاط الاقتصادي.
ونتيجة للتداعيات السلبية من وقف حركة التنقلات الداخلية والخارجية، والحد من حركة وسائل النقل العالمية، اتجهت بعض الدول أخيرًا لاتخاذ قرارات من شأنها أن تؤثر على حركة التجارة العالمية، بما في ذلك من تداعيات سلبية على وضع الغذاء في العالم.
ومن بين هذه الإجراءات، اتخذت مصر مثلا قرارا بوقف تصدير جميع البقوليات لمدة ثلاثة أشهر، بدأت من أواخر مارس/آذار 2020، وكذلك أعلنت فيتنام -ثالث أكبر مصدر للأرز- عن عزمها اتخاذ خطوات للحد من صادراتها من الأرز.
واتخذت كزاخستان -تاسع أكبر مصدر للقمح- الخطوة نفسها فيما يتعلق بصادراتها من القمح، حيث بدأت في اتخاذ إجراءات للحد من صادراتها، وهي تدابير طبيعية في ظل الأزمات. ومن قبل فعلت روسيا ذلك في عام 2007 بسبب أزمة التغيرات المناخية.
وإذا ما تصاعدت هذه الموجة من القرارات، خاصة فيما يتعلق بالسلع الغذائية، فإن المنطقة العربية ستكون من أكثر المناطق تضررا، حيث إنها تعتمد على استيراد الغذاء بنسبة كبيرة.
وبحسب إحصاءات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2019، فإن الفجوة الغذائية للعالم العربي بلغت نحو 35 مليار دولار.
وربما يكون موقف الدول العربية غير النفطية أكثر سوءا، لأنها تفتقد للموارد المالية اللازمة لتلبية احتياجاتها بالشكل الكافي، مما يعني أنها قد تكتفي بكميات أقل من احتياجاتها، أو أنها ستضطر للاستدانة من أجل توفير الغذاء.
وفي هذا الإطار، يتوقع أن تتراجع قيمة التجارة الخارجية للدول العربية في 2020 بنسبة كبيرة، بسبب الانهيار الحاصل في أسعار النفط، حيث يمثل النفط قرابة 64% من إجمالي الصادرات العربية، وسيكون لذلك أثره على أداء التجارة البينية العربية.
ولا يخفى على أحد واقع العلاقات الاقتصادية والسياسية السيئ في المنطقة العربية، فالحديث عن مشروع لتعاون اقتصادي عربي هو من أصعب الأمور، في ظل الحروب البينية بالمنطقة العربية، أو الحروب الأهلية داخل عدة دول عربية.
ولكن لعل حالة من الاستفاقة تنتاب الحكومات العربية بعد أزمة كورونا، تدعوها للعمل بشكل جدي في تفعيل مشروع التعاون الاقتصادي العربي، وتوفير الإرادة السياسية اللازمة لنجاحه.
وعالميا، تسببت أزمة كورونا في إيقاف العديد من الصناعات، في ضوء اعتماد السياسات الاقتصادية والتجارية على ما يعرف بسلاسل الإنتاج، حيث تعذر نقل مستلزمات الإنتاج أو قطع الغيار، مما أربك حركة العمل والتصنيع، وهو ما سيدفع الدول إلى التركيز على إقامة حلقات التصنيع الكامل داخل حدودها.
أما منظمة التجارة التجارة العالمية، فستجد أن اتفاقياتها مجرد حبر على ورق فيما يتعلق بالعوائق الجمركية، التي ستلجأ إليها كثير من الدول لحماية صناعتها المحلية، وهو نهج ليس بجديد.
وينتظر أن تتصدع أركان الاتحاد الأوروبي خلال المرحلة المقبلة لأسباب اقتصادية وتجارية، ناتجة عن تداعيات أزمة كورونا، وبخاصة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وتوقعات بأن تسلك دول أخرى المسار ذاته قريبا، وبلا شك سيكون لذلك أثره على مسار التجارة الحرة، ويكون دافعا للجوء للحماية التجارية.
ولكن في ظل التجربة الحالية، ووجود مصالح لبعض الدول الصاعدة، وعلى رأسها الصين، قد تسعى مع بعض الدول إلى استمرار العمل بمبدأ التجارة الحرة، وإن كان بشكل غير كامل كما كان الوضع في ظل العولمة الرأسمالية.