ذات مرة، اتصل بي صديقي -الذي يعمل مهندسا- ليستشيرني في أمر تكوين محفظة أوراق مالية، فأخبرته بطبيعة هذه المحافظ، وأن النوع المعروض عليه يسمى في عالم البورصة بالمضاربة، غير أنه بادرني بسؤال آخر حول ماذا تستفيد بلادي من أني أشتري اليوم هذا السهم لأبيعه غدا أو بعد أسبوع، ثم أربح بعض الجنيهات كثرت أو قلت؟، فأجبته بأن هذا هو منطق البورصة.
بعد أسبوع أخبرني صديقي بأنه وضع مدخراته في مشروع لتسمين الماشية مع زملائه، ثم فسر لي بعد مرور عدة أشهر لماذا رفض المضاربة في البورصة بقوله: إن مشروع الماشية أثمر مواشي آمنة صحيا، ووفر فرص عمل لتجار وجزارين وخلافه، وهو ما لم يكن سيحدث إذا ضارب في البورصة.
أما صديقي الآخر الذي يملك شركة صغيرة تعمل في مجال الطباعة والإعلام، فكانت له اهتمامات مختلفة عن الصديق الأول، فكنا نسير معا ليلا في المنطقة التي نسكن بها، فمررنا بأحد المقاهي، فأخذ يسأل عن كيفية الحصول على هذه الأرض وكيفية ترخيصها لهذا النشاط، وعدد العمال... إلخ، ولما انتهى سألته: وما الداعي لهذا؟ قال: أريد أن يكون لي مشروع مثل هذا، وأنام في البيت ويأتيني كل يوم عائد وفير!.
القصتان تشيران إلى نماذج حية في مجتمعانا العربية، فالنموذج الأول يملك ثقافة استثمارية قوامها تحقيق تراكم في رؤوس الأموال والثروة خلال فترة زمنية معقولة وبما يخلق فرص عمل داخل المجتمع، أما النموذج الثاني الذي يريد أن تأتيه الأموال وهو نائم في بيته فيمثل نمط الأعمال الريعية التي تعتمد على خروج عناصر الإنتاج عن نطاق عملها الطبيعي، فتبقى الأصول الإنتاجية دون زيادة أو تحقيق قيم مضافة، ولكنها تحقق عائدا كبيرا في مدة وجيزة.
ورغم أن التنمية ترتبط بالنموذج الأول، فإن نمط الأعمال الريعية المرتبطة بثقافة "حصد العائد والنوم في المنزل" هي المنتشرة في عالمنا العربي، ولعل هذا جاء انعكاسا - كما يقول المفكر الاقتصادي د. محمود عبد الفضيل- للنمط السائد في الاقتصاديات الكلية، فهناك اقتصاد سعي منتج للقيمة المضافة، كما فعلت النمور الآسيوية، وهناك أيضا اقتصاد رزق أو ريعي يعيش على ما وفره باطن الأرض من موارد دون زيادة أي قيمة مضافة أو إنشاء قطاعات إنتاجية، وتمثل بعض دول الخليج هذا النموذج الريعي.
ولعل عدم قدرة الاقتصاديات العربية على أن تخوض مضمار السعي ذي الطابع الاستثماري جعلها عاجزة عن تنفيذ مشروعات تنموية تواجه مشكلات مزمنة كالفقر والبطالة والتخلف التكنولوجي... وغيرها، ومن هنا يبدو أهمية تعميق ثقافة السعي الاستثمارية لدى المواطنين العرب، والتي تعني توجيه موارد المجتمع في أنشطه تحقق مصالحه، وتجني قيمة مضافة، وتساعد على عدالة توزيع الثروة.
ويخطئ من يظن أن المعني بهذه الثقافة فقط هم المدخرون الصغار ورجال الأعمال والمسئولون الاقتصاديون في الحكومات، وإنما لا بد أن تؤمن كافة فئات المجتمع بهذه الثقافة سواء أكانوا إعلاميين أو غيرهم؛ لأن ذلك سيساعد على نشر قيم العمل المنتج، بدلا من القيم الريعية والاستهلاكية التي تحبذ نمط الربح السريع كما نراها في واقعنا.
وفي هذا الصدد يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي في كتابه "مشكلات الحضارة.. المسلم في عالم الاقتصاد": "... إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصانع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان، وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات".
فالإنسان هو أساس التنمية يصنعها ويجنى ثمارها. فإذا لم تستهدف العملية التنموية صناعة إدراك هذا الإنسان بأنه مكرم من قبل الله، وأنه مستخلف في مال الله، فبلا شك تسيطر على إدراكه الثقافي روح الأنانية، بل يرى استعباد الآخرين من أجل شهواته أمرا مباحا.
وفي هذا السياق، يرى مالك بن نبي في كتابه المذكور أن المعارك الاقتصادية تدور حول القيم الثقافية، ووجهة النظر تلك نراها اليوم في واقع عصر العولمة، فثقافات الشعوب مستهدفة، ولعلنا نرى أن الدول العربية استسلمت لهيمنة الثقافة الأمريكية التي غيرت الأذواق والقيم من أجل فتح الأسواق، بينما نجد دولة كفرنسا، ظهر لوبي مدني يقاوم فتح أي فروع لمطاعم ماكدونالدز الأمريكية، خاصة في الريف الفرنسي، حتى لا تتغير أذواق الفرنسيين ومن ثم يخسرون اقتصادهم.
وفي هذا الصدد ينادي مفكرون وخبراء بأن الدول النامية ومنها العربية عليها اتباع نموذج تنموي يلائم مشاكلها وأدواتها الاقتصادية، فليس معقولا في مجتمعات تعاني من البطالة أن تجد تركيزا على قطاعات كثيفة رأس المال ولا تحتاج إلى عمالة أكبر. ولعل الناظر لتجربة الصين يجد أنها تعتمد على أساليب إنتاج تفضل كثافة الأيدي العاملة.
ولعل هذا المنطق يمكن إدراكه من قصة بسيطة رواها الدكتور أسامة الباز مستشار الرئيس المصري في أحد إصدارات معهد التخطيط القومي بالقاهرة حول أهمية المكون الثقافي في التجربة الاقتصادية للصين.
يقول الباز: "ذات مرة قال لي مواطن صيني إنه يوجد أجانب كثيرين يدخلون إلى المحلات التي يبيعون فيها الهدايا، فيشتري أحدهم سجادة، ويشتري الآخر طقم قهوة، كل على حسب قدرته، وفي النهاية كل يوم بعدما تنتهي حركة البيع، يجلس العمال معا ويدرسون كيف يقيمون السلوك الجشع لهؤلاء الأجانب الذين يشترون أشياء غالية الثمن ويدفعون فيها ثمنا باهظا، ونحن الصينيين أفضل منهم؛ لأننا نحن الصناع ونحن البائعون... إن هؤلاء القوم جشعون لأنهم يأخذون أكثر من حاجتهم، ويتكرر التلقين عدة مرات قبل انصراف العمال وعودتهم إلى منازلهم.. قيم صارمة وقاطعة، والانضباط بها سلوك منهجي مستمر لا يتزعزع على الإطلاق".
فالقضية كما يقول بن نبي: "ليست إمكانا ماليا ولكنها قضية تعبئة الطاقات الاجتماعية، أي الإنسان والتراب والوقت، في مشروع تحركه إرادة حضارية لا تحجم أمام الصعوبات، ولا يأخذها الغرور...".
ولعل العالم العربي والإسلامي يفتقد إلى وجود مشروع قومي، بحيث تستطع الدول والشركات أن تصوغ سياساتها في إطاره، وحتى على المستوى القطري غالبا ما تفقد كلمة المشروع القومي دلالاتها، حيث تجد بعض الحكومات تضفي على كل مشروع تقوم به صفة "القومي".
وثمة روافد تمثل وقود ثقافة السعي أو الاستثمار التي ينظر لها الدكتور سلطان أبو علي أستاذ الاقتصاد في مصر في إحدى أوراقه البحثية حول "الثقافة الإسلامية وبيئة الأعمال" على أنها تطور الأداء الاقتصادي، ومن هنا يجب عدم ترك التنمية الاقتصادية للاقتصاديين وحدهم دون غيرهم، بل لا بد من مشاركة خبراء وعلماء من كافة العلوم الإنسانية؛ لأن الثقافة تتعدد روافدها لتشكل مكونا إيجابيا لدى الفاعلين في النشاط الاقتصادي.
فمن يدرك المفهوم الصحيح للدين يتبين أنه مستخلف في هذا الكون، ومن ثم سيتصرف بشكل إيجابي في توظيف ماله، ومقدراته الاقتصادية الأخرى.
فالذي يثق في قدرته يستطيع أن يبحث ويطور ويبني ويضيف، ويقبل التحدي المفروض عليه، بل يحدد دوره في منظومة المجتمع الذي يعيش فيه.
وهي ليست فقط لجلب المال، ولكن لأنها ستحقق للإنسان تواجده وكينونته في الحياة.
حيث إنه مع غيابها في المجتمعات، تضمحل التنمية، فالمجتمع الأوربي مثلا تعمل فيه دولة القانون بشكل جيد، ولذلك فالأفراد فيه واثقون من أن القانون هو الحكم الفصل فيما بينهم من أعمال، بينما في دولنا النامية لا يثق الناس في تحقيق العدالة، وتتفشى قيم سلبية مثل الرشوة وغياب القانون.
حيث إن التنمية طويلة الأجل لا تتحقق إلا في ظل الديمقراطية التي تعني مشاركة المعنيين بأمر ما في مناقشة أي قرار خاص بهم، ومن هنا يترسخ لدى الأفراد ثقافة المشاركة وتحمل المخاطر.
حيث إن ثمة حاجة حقيقية لتعليم جاد وإعلام يتوافق ومتطلبات المشروع الحضاري للأمة، يرسخ القيم ويعلي من أمر العمل، ويثمن الإبداع والتطوير ويحقر الرتابة والتخلف.
حيث إن إهداره هو أهم أسباب تخلف مجتمعاتنا، ونلمس احترام الوقت في واقع الحضارة الغربية، وإلى أي مدى يحترم الوقت هناك، ولا نجد هذه الثقافة داخل مجتمعاتنا.
وهو باب واسع يشمل العديد من الفضائل قد لا يتسع المقام لذكرها من صدق وأمانة، وعدم الغش والتدليس، وعدم الاحتكار... إلخ.
إن من يرغب في الثقافة الاستثمارية سواء كان فردا أو دولة عليه أن يسعى لتحقيق المتطلبات والروافد، ومن دونها نصبح مجرد أناس يتم تسكينهم في خانة من ينتظرون رزقهم، ويعيشون علي الأعمال الريعية لا الاستثمارية.