تتوالى الأحداث السياسية في اليمن، بوتيرة لا تُعرف نهايتها، الفرقاء السياسيون هناك، لا يجمعهم شيء، ويؤثر ذلك بشكل كبير في الواقع الاقتصادي للبلاد، ومن أبرز هذه الآثار السلبية، ما أعلن أخيراً عن التراجع في رفع أسعار النفط الذي دخل حيز التنفيذ في شهر يوليو/تموز الماضي.
وكأنت الحكومة اليمنية قد اتخذت قراراً برفع أسعار الوقود في يوليو الماضي، بغية الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بنحو 560 مليون دولار، وقد أعلن أحد وزراء الحكومة اليمنية التوصل مع الصندوق إلى اتفاق مبدئي خلال أغسطس/آب الماضي، وأن الحكومة اليمنية سوف تسحب الشريحة الأولى من هذا القرض خلال الشهرين المقبلين.
ولا شك أن دخول مقترح الرئيس اليمني بالتراجع عن رفع أسعار الوقود، تلبية لشروط المعارضة، سوف يؤثر بشكل كبير في الاتفاق الذي أعلن عنه الوزير اليمني مع صندوق النقد الدولي، فكما حدث في الحالة المصرية من قبل في العام 2012، سوف يوقف صندوق النقد الدولي إجراءات ما بعد الاتفاق المبدئي، ويعتبره كأن لم يكن.
وتبقى مشكلة اليمن في أزمته التمويلية، حيث إن كل الوعود والتعهدات التي قدمت لليمن من الدول الأجنبية والعربية، مرهونة بالتوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ويأمل اليمن في الحصول على 8 مليارات دولار في إطار هذه الوعود، التي لم تتحقق على أرض الواقع بعد.
حسب ما هو منشور على موقع صندوق النقد الدولي، فإن الاتفاق مع اليمن تقدر مدته بـ3 سنوات، وبقيمة نحو 560 مليون دولار، ومن حق اليمن سحب الشريحة الأولى المقدرة بـ 73.8 مليون دولار، ومقابل ذلك تتبع الحكومة اليمنية برنامجاً اقتصادياً يقضي برفع تدريجي للدعم، وإعادة النظر في تحصيل الضرائب، من أجل زيادة الإيرادات، وأن يتبنى البنك المركزي اليمني سياسة نقدية تسمح بمرونة في تحديد سعر صرف العملة الوطنية، ومواجهة التضخم الناتج من إلغاء الدعم، كما تتم عمليات خفض للعمالة الوهمية بالقطاع العام والحكومة، على أن يقابل ذلك زيادة التحويلات النقدية لصالح الفقراء بواقع 50%.
ومع بداية دخول هذه الإجراءات حيز التنفيذ، تصاعدات وتيرة الاحتجاجات بالشارع اليمني، وقد تولت إحدى القوى السياسية المسلحة، التصعيد بالشارع ومحاصرة بعض الميادين والدعوة إلى الاعتصام لحين إقالة الحكومة، والتراجع عن قرار رفع أسعار الوقود، وهو الأمر الذي لقي استجابة من خلال تصريحات رئيس البلاد، إلا أن المعارضة اشترطت أن يكون ذلك من خلال قرارات تتخذ بشكل رسمي، وليس مجرد تصريحات سياسية.
وقبول الحكومة اليمينة بهذا الشرط، من شأنه أن يدفع صندوق النقد الدولي إلى تجميد اتفاقه المبرم في مطلع سبتمبر/أيلول الحالي مع الحكومة اليمنية، لما سيترتب عليه من أوضاع زيادة العجز بالموازنة العامة للدولة، وعدم النجاح في خفضه، وحسب البيانات المنشورة على موقع صندوق النقد الدولي، فإن العجز المقدر في الموازنة اليمنية العام 2014 يصل لنسبة 5.4%. كما أن معدل التضخم قبل تطبيق إجراءات رفع أسعار الوقود يبلغ 13%، والأخطر من هذا رصيد البلاد من احتياطي النقد الأجنبي المقدر بـ3.4 مليارات دولار، والذي يغطي احتياجات البلاد من الواردات الضرورية لمدة 3.2 شهر فقط لا غير.
يقدر الناتج المحلي الإجمالي لليمن بنحو 40 مليار دولار، ويصل عدد السكان إلى نحو 26 مليون فرد، وهناك مخاوف من استمرار تراجع معدلات نمو الناتج المحلي، إذ يقدر بنسبة 1.9% مع نهاية العام 2014، في حين بلغ معدل الزيادة السكانية السنوي 3.5%، ولذلك تصل نسبة الفقر باليمن إلى 52%، ويصنف اليمن كذلك على أنه من الدول الأشد فقراً على مستوى العالم.
وفي ظل الأحداث التي يعيشها اليمن مؤخراً، وتصريحات رئيسها بالتراجع عن رفع أسعار الوقود، فإننا أما سيناريوهين متوقعين من إدارة صندوق النقد الدولي، أن يتم التجاوز عن قرار التراجع بشأن رفع سعر الوقود، مراعاة الحالة السياسية والأمنية لليمن، ويتم استكمال باقي إجراءات القرض، وإما أن يتم تعطيل كل شيء، ليبدأ اليمن الأمر من جديد، بتفاوض جديد وجولة جديدة، تتناسب مع ظروفه الاقتصادية والاجتماعية.
لكن الملاحظ أن صندوق النقد الدولي يتعنت في مواقفه مع الدول النامية، وأقرب مثال ما حصل مع مصر في نهاية 2012، حيث تم تجميد إجراءات اتفاق يمنح مصر قرضًا بنحو 4.8 مليارات دولار، بينما تجاوز صندوق النقد الدولي هذه الظروف مع دول أوروبا إبان مشكلات الديون الأخيرة، على الرغم من سوء أوضاعها المالية، وتراجعها في العديد من الإجراءات المتفق عليها مع الصندوق، مراعاة للضغوط الاجتماعية والسياسية هناك.
وإذا ما كانت المؤسسات المالية الدولية، ومن بينها صندوق النقد الدولي، تعمل على استقرار الأوضاع الاقتصادية، فالظرف اليمني بكل ملابساته يقتضي أن يتجاوز صندوق النقد الدولي، عن قرار التراجع في أسعار الوقود، وأن يتم باقي إجراءات القرض لليمن، وحصوله على شرائح القرض في مواعيدها، اسوة بما تم في دول أوروبا.
فاليمن على شفا حرب أهلية، وتشديد التعامل معه بشأن القرض قد يفضي إلى اتساع هذه الحرب، وهو الأمر الذي ستكون له تبعات اقتصادية شديدة الوطأة على الفقراء.
من شأن انهيار اتفاق اليمن مع صندوق النقد الدولي، أن يؤدي إلى استمرار حالة الفجوة التمويلية، وأن تزداد حدتها خلال الفترة المقبلة، ومما سيصعب على اليمن التفكير في مصادر أخرى، أن تلك الأبواب موصودة دون الحصول على موافقة صندوق النقد الدولي، كما أن اللجوء للاقتراض من السوق الدولية من خلال مصادر تجارية سيكون شديد التكلفة التمويلية، لأن مصادر التمويل التجارية، تتسم بسمتين سلبيتين لا تناسب ظروف اليمن، وهما ارتفاع سعر الفائدة، وقصر فترة القرض، بينما اليمن، شأنه شأن الدول التي تعاني من ارتفاع معدلات المديونية، ونقص الموارد التمويلية، وتبحث عن قروض طويلة الأجل، وبمعدلات فائدة منخفضة.
الثمن الذي يدفعه المجتمع اليمني باهظ، نتيجة تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي، وهي إجراءات عادة ما يتحمل نتيجتها شرائح الفقراء، وتسهم في سقوط الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى لشريحة الفقراء، وبخاصة أن الأجواء السياسية والأمنية لا تساعد على الإطلاق على تطبيق هذه الإجراءات، فلا الدولة لديها ما يمكنها من بسط نفوذها لتطبيق هذه الإجراءات، ولا هي قادرة على توفير الأمن لإطلاق مقدرات النشاط الاقتصادي، وتعويض المواطنين عن التكلفة المرتفعة في الأسعار.
ومن ناحية أخرى، إذا أعلن صندوق النقد الدولي تجميد الاتفاق، فسوف تكون هناك قياسات سلبية من قبل مؤسسات التصنيف الدولي للوضع الائتماني في اليمن، مما يضيق الفرص على اليمن في التوجه لمصادر أخرى، كما سيرفع من تكلفة التمويل، بفرض أن اليمن وجد من يقرضه، من دون شهادة أو اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وحالة مصر خير شاهد، فقد أُعلن أن مصر ستلجأ إلى سوق السندات الدولية، لاقتراض 3 مليارات دولار بضمانة إماراتية، حتى لا ترتفع عليها تكلفة التمويل، لأن مصر لم تتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي منذ تجميد الاتفاق المبدئي في آواخر عام 2012، ولن يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قد يمتد إلى انخفاضات أكبر في قيمة العملة المحلية، وكذلك في أداء البورصة اليمنية.
والمعروف أن العملة المحلية اليمنية تعاني من معدلات تراجع أمام الدولار منذ الثوة اليمنية بمعدلات كبيرة، ودخولها في دوامة انخفاض جديدة، أن تشعل معدلات التضخم - يعادل سعر الدولار قرابة 245 ريال يمني.
يتطلب الأمر في اليمن في ظل هذه الظروف التمويلية الصعبة، والتي قد تشتد تعقيداً في ضوء احتماال تجميد اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، أن يكون هناك بالفعل تراجع عن رفع أسعار الوقود، أن تتم مواجهة حقيقية للفساد في القطاع الحكومي والقطاع العام، لكي يكون هناك تعوض يؤدي إلى حسن تحصيص الأنفاق العام، ويزيد من الإيرادات العامة.
كذلك هناك إجراءات لا ترتبط بقرار رفع أسعار الوقود، ولا بد من الحسم فيها، مثل العمالة الوهمية، فوجود أفراد يحصلون على رواتب دون أن يكونوا من العاملين، أمر غير مقبول في ظل ظروف اليمن الاقتصادية الخانقة.
مما يزيد من كارثية الوضع في اليمن، أن حكومته، شأن باقي حكومات الدول النامية، لا يكون لديها بديل آخر أو حل بديل لأية مشكلة تواجهها، فتجميد اتفاق الصندوق لحصول اليمن على القرض، لا يقابله حل لدى الحكومة اليمنية، سواء على الصعيد المحلي، أو الدولي، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية هناك.