رغم بعض التوقعات التي تأمل أن تهدأ الحرب الاقتصادية بين أميركا والصين، تتجه تصريحات مسؤولي البلدين نحو التصعيد، فقد خرجت الأمور من نطاق الصراع التجاري عبر الرسوم الجمركية المفروضة من قبل الدولتين على منتجات الطرف الآخر، إلى عودة الحديث عن حرب العملات، بجانب تصريحات رئيس المجلس الفدرالي الأميركي بأن أسعار الفائدة سوف تشهد زيادة أخرى في الفترة المقبلة.
ولكن في ظل هذا الصراع غير محدد الأبعاد، أين هي مصالح الدول العربية، وأين هي مواقع الضرر التي يمكن أن تلقي بظلالها السلبية على الاقتصادات العربية؟
التجارة الخارجية للدول العربية في نهاية 2016 بلغت 1592 مليار دولار، منها 796.4 مليارا صادرات عربية لكافة دول العالم، و795.8 مليار دولار واردات من كافة دول العالم، وبذلك تكون نتيجة الميزان التجاري السلعي للدول العربية وجود فائض بنحو ستة ملايين دولار فقط، وذلك حسب بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2017، الذي أفاد أن التجارة العربية في عام 2016 تراجعت بنسبة 6.7% عما كانت عليه في 2015، وأن مساهمة الصادرات النفطية مثلت 58.7% من إجمالي الصادرات السلعية العربية.
وحسب نفس التقرير، وكما هو واضح من الرسم البياني، بلغ إجمالي التجارة العربية مع الصين في عام 2016 نحو 210.1 مليارات دولار، وهو ما يمثل 13.1%، حيث بلغت الصادرات العربية للصين 78.8 مليار دولار، بينما بلغت الواردات العربية من الصين 131.3 مليار دولار، ليفضي الميزان التجاري لتحقيق فائض لصالح الصين بنحو 52.5 مليار دولار.
وبلغ حجم التجارة العربية مع أميركا 106.6 مليارات دولار، وبما يمثل نسبة 6.6%، حيث بلغت الصادرات العربية للولايات المتحدة 37.4 مليار دولار، بينما بلغت الواردات العربية من أميركا 69 مليار دولار، وبذلك يظهر الميزان التجاري فائضا تجاريا لصالح أميركا بنحو 31.8 مليار دولار.
ومن خلال هذه البيانات نجد أن الصين تتفوق على أميركا في حجم تجارتها مع الدول العربية، بما يصل إلى الضعف تقريبا، ولكن عند استعراض هيكل التجارة الخارجية العربية نجد أن الاتحاد الأوروبي يعد الشريك التجاري الأول مع الدول العربية، حيث يسيطر على 28.4% من إجمالي واردات الدول العربية، كما يستحوذ الاتحاد على نسبة 12.4% من إجمالي الصادرات العربية، وتأتي الصين في المرتبة الثانية، تليها أميركا ثم اليابان.
"
تصاعد الحرب التجارية والاقتصادية العالمية يعني مزيد من الركود الذي سيلقي بظلاله على تراجع معدلات التجارة الدولية، والتي تؤثر بدورها سلبا على السفن المارة من قناة السويس التي تمثل عوائدها أحد أهم موارد النقد الأجنبي بمصر
"
في مقدمة المخاطر المحتملة على المنطقة العربية تلك الأضرار التي ستتحملها الدول النفطية العربية في حالة تطور الصراع والدخول في حالة ركود تساعد على بطء النمو في الناتج المحلي العالمي، مما يجعل الطلب على النفط في حالة تراجع، وبالتالي يؤثر على مستوى الأسعار في السوق الدولية.
في حين ما زالت الاقتصادات النفطية العربية تعاني من التداعيات السلبية لانهيار أسعار النفط بالسوق الدولية منذ منتصف 2014، مما أدى إلى زيادة عجز الموازنات بتلك الدول، وألجأها للاستدانة داخليا وخارجيا، بل وتطبيق إجراءات اقتصادية تقشفية غير مسبوقة.
وفي حالة تصاعد السيناريو الأسوأ للحرب التجارية العالمية وهبوط أسعار النفط عما هي عليه الآن، ستواجه الاقتصادات النفطية العربية المزيد من الصعوبات المالية، وسيؤدي ذلك إلى تصعيد تنفيذ المزيد من إجراءات التقشف التي طالت حياة المواطن الخليجي بشكل رئيسي، وأثرت على مستويات الرفاهية التي عاشها على مدار عقود ماضية.
وثمة ضرر يقع على عاتق أفقر دول الخليج وهي مملكة البحرين، حيث تعول كثيرًا على ما أعلنته منذ أيام باكتشاف آبار من النفط والغاز الصخري، لتستفيد من منتجاته خلال السنوات الخمس القادمة، وأن هذا البئر يضم نحو احتياطيات تقدر بنحو ثمانين مليار برميل من النفط، فضلا عن احتياطيات الغاز الطببيعي.
ولكن في حالة تراجع أسعار النفط سيفقد الاكتشاف البحريني بعده الخاص باقتصاديات الإنتاج، حيث ستكون التكلفة الاقتصادية لاستخراج النفط من هذه الآبار الجديدة أعلى من سعر بيعه، وهو ما سيجعل شركات الإنتاج تعرض عن الاستثمار بالبحرين.
وهذا يعني مزيدا من المعاناة المالية للبحرين التي يتزايد دينها العام بمعدلات كبيرة، ويتوقع أن تصل نسبة دينها العام إلى 98% من الناتج المحلي الإجمالي في 2019.
نشرت وكالة بلومبيرغ مؤخرا أن الصين تدرس مسألة خفض عملتها المحلية في إطار حربها التجارية مع أميركا، وإذا انتقل طرفا الأزمة الرئيسيين (أميركا والصين) لمضمار تخفيض قيمة العملات، فسوف ينتقل الأمر إلى بقية الدول، كما هو الحال الآن بشأن زيادة الرسوم الجمركية، وهو ما يعني تعرض الثروات العربية الموجودة بالخارج للانخفاض، وكذلك احتياطياتها من النقد الأجنبي، لتكون خسارة الدول النفطية العربية مركبة، وتدفع الدول النفطية الخليجية الآن ثمنا كبيرا لفشل مشروعها للتعاون الاقتصادي عبر مجلس التعاون الخليجي الذي أصبح حبرا على ورق بعد الأزمة الخليجية منذ يونيو/حزيران 2017، حيث تم حصار قطر من قبل ثلاث دول خليجية ومصر.
الأزمة المالية التي تعيشها مصر منذ بداية الانقلاب العسكري في عام 2013 تزداد تعقيدا وتتبدى ملامحها في ارتفاع معدلات الدين العام (المحلي 3.16 تريليونات جنيه والخارجي 82 مليار دولار)، وقد قامت الحكومة المصرية بإصدار سندات بالدولار بنحو أربعة مليارات دولار مطلع 2018، ثم في مطلع أبريل/نيسان الحالي قامت بإصدار آخر بنحو ملياري يورو.
والأضرار المنتظر أن تمس الأوضاع الاقتصادية بمصر تتمثل في أكثر من جانب؛ الأول أن تصاعد الحرب التجارية والاقتصادية العالمية يعني مزيدا من الركود الذي سيلقي بظلاله على تراجع معدلات التجارة الدولية، والتي تؤثر بدورها سلبا على السفن المارة من قناة السويس، وتمثل عوائدها أحد أهم موارد النقد الأجنبي بمصر، رغم ما يعتريها من تراجع عوائدها منذ مشروع التوسعة الذي نفذه قائد الانقلاب العسكري في أكتوبر/تشرين الأول 2014.
والملمح الثاني يخص صادرات مصر من الحديد الصلب لأميركا، حيث تصدر مصر حديد بنحو 100 مليون دولار لأميركا، ولم تعلن واشنطن عن قبول الالتماس الذي تقدمت به مصر لاستثناء صادراتها من الصلب من الرسوم الجمركية الجديدة.
"
لن تستطيع الدول العربية مجاراة ما ينتظره العالم من سباق في سعر الفائدة، لأنها بالفعل لديها أسعار فائدة مرتفعة وتحتاج تصرفا عكسيا وهو خفض الأسعار من أجل خفض تكاليف الإنتاج المرتفعة التي تحول دون منافسة المنتجات المحلية في السوق المحلية أو الدولية
"
وفي هذه الحالة ستواجه صادرات مصر لأميركا من الصلب المزيد من المنافسة أمام الصادرات المكسيكية والكندية، حيث إنهما الدولتان اللتان استثنتهما قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية، في وقت تشكل صادرات مصر من الصلب لأميركا نسبة 0.5%.
ولإن كانت أميركا تستورد سنويا نحو 34 مليار دولار من منتجات الصلب، إلا أن 100 مليون دولار بالنسبة لصادرات مصر تعني رقم لا يمكن إهماله.
في سباق محموم، سوف تتجه الدول الأخرى لتحذو حذو أميركا في رفع أسعار الفائدة لكي تحافظ على ما لديها من استثمارات أجنبية، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، ولتمنع كذلك خروج الاستثمارات المحلية إلى السوق الأميركية بحثا عن عائد مرتفع.
وسوف يفرض هذا الأمر تحديا جديدا على الدول العربية التي تراهن بشكل كبير على استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ولكن المقارنة بلا شك سوف تكون لصالح أميركا لما تتميز به من مناخ استثمار أفضل من الدول العربية التي تعاني من عدم الاستقرار السياسي والأمني، فضلًا عن تواضع ناتجها المحلي الإجمالي.
ولن تستطيع الدول العربية مجاراة ما ينتظره العالم من سباق في سعر الفائدة، لأنها بالفعل لديها أسعار فائدة مرتفعة وتحتاج تصرفا عكسيا، وهو تخفيض الأسعر من أجل خفض تكاليف الإنتاج المرتفعة التي تحول دون منافسة المنتجات المحلية في السوق المحلية أو الدولية.
وسط هذه المخاطر تلوح فرصة ليست بالكبيرة، ولكن على العرب اغتنامها لتعويض ما ينتظرهم من تداعيات سلبية، وهي أن الصين وضعت وارداتها من البتروكيماويات الأميركية ضمن قائمة 103 سلع ستفرض عليها رسوما جمركية إضافية، وبالتالي فإن الدول العربية لديها فرصة لأن تحل محل الصادرات الأميركية للصين، ولكن هذه الفرصة لن تكون متاحة للدول العربية المنتجة للبتروكيماويات فقط، بل هناك منافس قوي وهو كوريا الجنوبية، ليؤثر على فرصة العرب ما لم يحسنوا استغلالها.
وحتى تستطيع الدول العربية المنتجة للبتروكيماويات ذلك فعليها أن يكون لديها مرونة سريعة في الاستجابة لتغطية احتياجات السوق الصينية، وإلا فسيستغلها الآخرون.
"
الدول العربية لديها فرصة لأن تحل محل الصادرات الأميركية للصين، ولكن هذه الفرصة لن تكون متاحة للدول العربية المنتجة للبتروكيماويات فقط، بل هناك منافس قوي وهو كوريا الجنوبية، ليؤثر على فرصة العرب ما لم يحسنوا استغلالها
"
وحسب بيانات الاتحاد الخليجي للبتروكيماويات والكيماويات (جيبكا) فإن صادرات قطاع البتروكيماويات بالخليج بلغت 48.8 مليار دولار في 2016، بعد أن كانت 62.2 مليار دولار في 2014.
ويعد فرض ضرائب جمركية من قبل الصين على المنتجات الأميركية من البتروكيماويات، فرصة لأن يعوض القطاع تراجع صادراته على مدار العامين الماضيين، بسبب انخفاض أسعار النفط، التي أثرت بدورها على أسعار منتجات القطاع. ويبقى التحدي أمام الدول النفطية العربية، حيث تمثل صادرات البتروكيماويات أهم الصادرات في السلع غير النفطية لتلك الدول.
وفي مثل هذه الأزمات الدولية تحاول التجمعات الإقليمية العمل على مواجهة مشتركة لتقليل خسائرها، ولكن العرب لا يتعلمون الدرس، فمع كل أزمة اقتصادية تمر بالعالم يزداد العرب فرقة وتشتت جهودهم وتصبح مواجهة الأزمات مسؤولية كل بلد على حدة.
فلم يسمع لجامعة الدول العربية صوت في هذه القضية الدولية، التي تشغل الجميع، ولا حتى على صعيد مؤسساتها المختلفة المعنية بالجانب الاقتصادي مثل مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، أو الاتحادات النوعية العربية التي يغلب عليها الجانب الاقتصادي التي يزيد عددها عن نحو 80 اتحادا