حالة من التفاؤل انتابت شعوب دول الربيع العربي، بعد ثورة تونس في ديسمبر/ كانون الأول 2010، ونجاح الثورات في بلدان عربية أخرى، حيث انتظرت الشعوب مشروعًا تنمويًا حقيقيًا على مستوى البلدان، أو التمهيد لإحياء مشروع التكامل الاقتصادي العربي، خاصة أن البطالة كانت ولا تزال في المنطقة العربية عند أعلى معدل بين مناطق العالم، سواء بين الكبار أو بين الشباب، حيث تشير بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، إلى أن النسبة تصل إلى 15.9% من قوة العمل، أي وجود 25.6 مليون عاطل من العمل، حسب إحصائيات 2019، وترتفع النسبة بين الشباب (15- 24) لتصل إلى 37%.
أما معدلات الفقر، فيشير التقرير نفسه إلى بلوغها نسبة 15.7% من إجمالي السكان، وفق مؤشر الفقر متعدد الأبعاد (يشمل هذا المؤشر الدخل، والصحة، والتعليم، والأمن، والبنية الأساسية)، فضلًا عن حالة الرغبة الجامحة في الهجرة خارج المنطقة العربية لفقدان الأمل في حياة كريمة.
لم تدم حالة التفاؤل كثيرًا، حيث كانت الثورات المضادة بالمرصاد لثورات الربيع العربي، سواء بمساعدة الجيوش، أو السعي لإحداث حالة اقتتال وحروب أهلية، فزادت معدلات الفقر في المنطقة بشكل كبير، وأصبحت المنطقة من أكبر مناطق العالم تصديرًا للمهاجرين، أو كونها تعاني من ازدياد عدد النازحين.
كانت الشعوب العربية تأمل في أن تحدث حالة من الاستفادة من الموارد المالية العربية، لتمويل الاستثمارات بعد ثورات الربيع العربي، لتحقيق حالة للتخلص من التبعية للغرب والمؤسسات الدولية، ولكن للأسف الشديد، كانت بعض الأموال الخليجية لها رأي آخر، حيث وظفت في ما يعرف بالمال السياسي، في اغتيال حلم ثورات الربيع العربي، ما أدى إلى تكريس التخلف والتبعية للاقتصاديات العربية، فتم دعم الجيوش للقيام بانقلابات عسكرية، كما حدث في مصر والسودان، وإفشال التجربة الديمقراطية في اليمن والسعي لدعم خليفة حفتر للانقلاب العسكري في ليبيا، وإزكاء روح الحرب الأهلية في سورية.
ولم يتوقف دور المال السياسي القذر على دعم الصدام الخشن، وتدخل الجيوش لإفشال ثورات الربيع العربي، ولكن استخدمت كذلك أدوات القوة الناعمة، من إعلام، وشركات علاقات عامة، لتصدير حالة من اليأس والقنوط لدى الشعوب العربية تجاه الممارسات الديمقراطية، والعمل على تلميع قادة الجيوش، ورموز الديكتاتورية، وربط المساعدات والقروض بمجيء دعاة الديكتاتورية للسلطة في بلدان ثورات الربيع العربي.
من الخطأ الاعتقاد بأن المخطط الخارجي لإفشال ثورات الربيع العربي على الصعيد العربي كان يتركز فقط في المال السياسي، بل كان كذلك بسبب التنسيق مع الجيوش، والدولة العميقة التي أنشأتها النظم الديكتاتورية ما قبل ثورات الربيع العربي. ففي تونس حرصت دول خليجية على استمرار حالة الاختناق المالي على مدار 10 سنوات أو يزيد، (ديسمبر/ كانون الأول 2010 – يوليو/ تموز 2021)، حيث عانت تونس من أزمات مالية حادة ألجأتها إلى المؤسسات المالية الدولية، والحصول على العديد من القروض الخارجية، التي أرهقت الموازنة العامة للدولة، بسبب أعباء هذه الديون.
لم يكن هذا هو المظهر الوحيد الذي يُفسر سلوك هذه البلدان، خصوصاً السعودية والإمارات، لإفشال تجربة الثورة في تونس على الصعيد الاقتصادي، ولكن سعت الدولتان للتأثير على مجريات الانتخابات الرئاسية التي شهدتها تونس في عام 2014، من خلال الوعود التي قدمت في مؤتمر الاستثمار بتونس، حيث تعهدت تلك الدول بتقديم 10 مليارات دولار لإنشاء منطقة صناعية كبيرة، وتجمعات خدمية، وخلق نحو 250 ألف فرصة عمل جديدة في تونس.
لكن هذه الوعود تبخرت بعد الانتخابات الرئاسية، ولم تحظ منها تونس بشيء، على أرض الواقع، بل حتى في ظل معاناة تونس في ظل أزمة كورونا، كانت الأموال من السعودية والإمارات المقدمة لتونس محدودة، بسبب معاداة هاتين الدولتين لحركة النهضة صاحبة الحصة الأكبر في غالبية الاستحقاقات الانتخابية.
على الرغم من تحفظ البعض على وصف ما حدث في تونس بأنه "انقلاب" دون وصفه بالعسكري، إلا أن الساعات القليلة الماضية، ومشهد اجتماع قيس بن سعيد بالقيادات العسكرية والأمنية، يؤكد على عسكرة الانقلاب، وأنه لولا الدعم العسكري والأمني، لما كان الرئيس التونسي ليجرؤ على الإعلان عن هذا الانقلاب.
ويمكن القول بأنه بعد انقلاب تونس، اكتملت خريطة المشهد الاقتصادي العربي، لنرى استمرار إهدار الموارد الاقتصادية العربية، في إطار الصراعات البينية، أو دعم النظم الديكتاتورية، أو استمرار التبعية الاقتصادية للخارج، عبر الإبقاء على الوضع الريعي لغالبية الاقتصاديات العربية، كون النفط هو السلعة الرئيسة بين الصادرات السلعية العربية. بلا شك أن انقلاب تونس، إن قدر له أن يكتمل، سيكون سببًا في استمرار حالة الرغبة الجامحة في الهجرة من المنطقة، إلى أوروبا وأميركا، سواء من خلال الهجرة الشرعية أو غير الشرعية، فضلًا عن ازدياد معدلات طلب اللجوء السياسي من الدول العربية في كل من أميركا وأوروبا.
بل ستكون النتيجة الحتمية، بعد انقلاب تونس، هي زيادة مساحة الضبابية المالية في ما يتعلق بموازنات الدول العربية، فالبرلمانات ستعود لوضعها الطبيعي، كونها صنيعة الأجهزة الأمنية، فلن تجرؤ على محاسبة الحكومات، كما ستكون الموازنات غير معبرة عن رغبات واحتياجات الشعوب، بل ملبية لتمكين دولة العسكر وتوطيد عرى الديكتاتورية.
للأسف الشديد، ستظل المنطقة العربية تعاني من سوء توظيف الموارد المالية، وستكون لدول النفط الخليجية المعادية للديمقراطية مواقع بارزة على خريطة النفوذ المالي، خاصة بعدما تجاوز سعر برميل النفط سقف 70 دولارا، ما يمكنها من تجاوز أزمتها المالية، والتصرف بالمزيد من التوظيف السياسي لمواردها، بما يدعم الديكتاتوريات العربية.
وفي ظل حالة النزاع المسلح في ليبيا، وسورية، واليمن، والصومال، والسودان وإذكاء حالة الحرب بين المغرب والجزائر، ستكون المنطقة بلا مشروع تنموي، حيث تركز هذه البلدان (فقيرها وغنيها) على الإنفاق على التسليح، وتجارة الحروب.
بينما ستكون الدول العربية غير النفطية، متوسطة الدخل أو الفقيرة، صاحبة موقع باهت على خريطة النفوذ المالية، حيث ستكون حاجتها المالية ضاغطة عليها لعدم مقاومة رغبة الدول النفطية راعية الديكتاتوريات، ولن تكون هذه الرعاية صانعة نهضة أو تنمية، ولكنها ستكون في إطار مساعدات غير دورية لا تسمن ولا تغني من جوع، بحيث تكون الدول العربية متوسطة الدخل والفقيرة دائمًا في حالة عوز مالي. ولن تكون المساعدات المالية هي الأداة الوحيدة لضبط العلاقات المالية العربية البينية، ولكن ستكون الديون حاضرة وبقوة، وبخاصة أنها الأداة الأكثر ضغطًا على إرادة الدول.
أما الحديث عن تدفق استثمارات خليجية للدول العربية التي تعاني من أزمات تمويل، فلن تكون هذه الاستثمارات إلا في حيز ضيق، وفي إطار أنشطة ريعية، وسريعة العائد، من خلال مشروعات العقارات والسياحة، والخدمات المالية.
في الختام، الانقلابات العسكرية، الناعم منها والخشن، لم تجن دولنا العربية منها سوى التبعية للخارج، والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وهروب الموارد البشرية الكفء.