في الوقت الذي تتنازع فيه دول خليجية في ما بينها، ويُفرض حصار اقتصادي بأشكال متعددة على دولة قطر، نجد أن إيران وتركيا تعلنان عن بدء التبادل المصرفي بعملتي البلدين، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من تسهيل التبادل التجاري والاقتصادي بينهما، ويساعد على ما أعلنه الرئيس التركي، رجب الطيب أردوغان، باستهداف وصول التبادل التجاري بين البلدين إلى 30 مليار دولار، مقابل 14 مليار دولار حاليًا، أي مضاعفة حجم التبادل التجاري القائم.
والتبادل التجاري والاقتصادي بين تركيا وإيران ليس مجرد أرقام حسابية، وزيادة ونقص في الموازين التجارية، لكنه تطور لعلاقات اقتصادية لشعبين عدد سكانهما نحو 160 مليون نسمة، وأن عدد سكانهما بما يزيد عن نسبة 50% من عدد سكان الدول العربية مجتمعة، فضلًا عن الموارد والإمكانيات الاقتصادية التي يتمتع بها البلدان، وكذلك حالة الاستقرار السياسي والأمني الذي تتمتعان به، إضافة لنجاحهما في تجاوز الأزمات التي استهدفت توريطهما في أزمات داخلية أو إقليمية تؤدي إلى إهدار مواردهما الاقتصادية.
وهو ما يعني ترسيخ المكانة الاقتصادية لتركيا وإيران على خريطة القوى الاقتصادية لمنطقة الشرق الأوسط، فتركيا بدأت في الخروج من كبوتها الاقتصادية بعد الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع في يوليو 2016، بارتفاع معدل النمو الاقتصادي بنحو 5% في الربع الأول لعام 2017، وتراجع معدل البطالة لنحو 11.7%، كما تشهد عملتها تحسناً ملحوظاً أمام الدولار.
وكذلك إيران التي تحاول جاهدة الاستفادة بأقصى درجة ممكنة من تفعيل الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية عنها في يناير 2017، حيث انخفض معدل التضخم بها ليمثل رقم واحد دون نسبة 10%، بعد أن ظل لسنوات يتجاوز الرقمين، وأن نسبة النمو الاقتصادي تجاوزت 6% بنهاية العام المالي الإيراني المنتهي في مارس 2017، وإقامة شبكة من المصالح الاقتصادية متعددة الأطراف تجمع بين الغرب والدول الصاعدة، والعمل على زيادة صادراتها من الحديد وسلع أخرى إلى جوار النفط والغاز.
بينما الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص، لا يزالون رهن الأداء المتقلب لأسعار النفط، وثمة خطط اقتصادية للتوسع في الاقتراض الداخلي والخارجي، والدخول في برامج لخصخصة المنشآت العامة، وتخفيض الدعم على السلع والخدمات، وتسريح واضح للعمالة الأجنبية.
وبلا شك أن الفارق بين أداء كل من الطرفين، دول الخليج وباقي الدول العربية من جهة، وتركيا وإيران من جهة أخرى، يفضي إلى واقع اقتصادي جديد، حيث تركز تركيا وإيران على دور القيمة المضافة في أدائهما الاقتصادي، بينما الدول العربية والخليجية منها على وجه التحديد لا تزال تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، أو الصناعات التقليدية.
وفي ما يلي نشير إلى بعض مظاهر تقدم تركيا وإيران، وتراجع الخليج والدول العربية في دائرة المنافسة الإقليمية اقتصاديًا.
- استجمع الخليجيون عدداً من التحديات السياسية ذات المردود الاقتصادي، التي تضعف موقفهم في التنافس الاقتصادي بمنطقة الشرق الأوسط، ومنها دعم دول خليجية (السعودية، والإمارات، والكويت) للانقلاب العسكري بمصر، ولم يكن الدعم لمرة واحدة، ولكن مشكلات الاقتصاد المصري وعدد سكان مصر الذي يقترب من 100 مليون نسمة، هو عبء على أي طرف مهما كانت إمكانياته المادية، بسبب السياسة الاقتصادية للحكومة المصرية والتي تركز على المساعدات والقروض، وبالتالي شكل دعم الاقتصاد المصري عبئًا على دول الخليج في ظل أزمة تراجع عائدات النفط.
أيضًا كان قرار ضم مصر لدول الحصار على قطر يفتقد لأي مقومات اقتصادية، فوضع مصر مع قطر اقتصاديًا هو الأضعف، حيث تمتلك قطر أدوات للضغط عليها مثل وقف الصادرات النفطية أو تسريح العمالة المصرية المقدر عددها بنحو 300 ألف عامل. وإن كانت قطر لم تستخدم أيًا من أوراق الضغط في أزمتها مع الدول الخليجية أو مصر.
كما لم يكن موفقًا دخول دول الخليج في تحالف لخوض حرب مفتوحة في اليمن مضى عليها أكثر من عامين دون تحقيق نتائج تذكر في حسم الصراع المسلح هناك، بل أصبحت الحرب تمثل تهديداً لأمن واستقرار السعودية بسبب استهداف الحوثيين لمناطق مأهولة بالسكن بقذائفهم الصاروخية.
- مثلت زيارة ترامب للسعودية استنزافاً للموارد المالية الخليجية، حيث أبرم صفقات بنحو 500 مليار دولار، في الوقت الذي تعلن فيه كافة دول الخليج عن برامج لجذب الاستثمارات الأجنبية، أو التوسع في الدين العام، أو في استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، لقد كانت الصفقات الضخمة بمثابة شراء ولاء الإدارة الأميركية الجديدة، وطلب الدعم الأميركي في تصور خليجي لطبيعة العلاقات السياسية والأمنية بمنطقة الخليج.
- ثم كانت الحملة الخليجية (السعودية، والإمارات، والبحرين) بحصار قطر الاقتصادي، وشن حرب إعلامية لاتهام قطر بدعم الإرهاب، وللأسف لم تكن الحملة الخليجية تعتمد على أسس صلبة، حيث إنها لم تكن تملك مقومات الحصار الاقتصادي، لا من حيث الإمكانيات ولا إمكانية الإلزام، بل مثل الحصار السعودي- الإماراتي لقطر فرصة للمنافسين الإقليميين (تركيا وإيران) لزيادة حجم تعاملاتهما التجارية والاقتصادية مع قطر، كما أدى الحصار إلى لجوء قطر لمزيد من الإنفاق على التسليح، حيث أعلن عن إبرام صفقة طائرات مع أميركا بنحو 20 مليار دولار.
- مثلت خطوة قيام بعض الدول الخليجية بحصار قطر، مرحلة مهمة في وجود مجلس التعاون الخليجي، فينتظر أن يكون دور هذا المجلس إلى زوال، أو أن يظل بلا دور، فثمة حالة من الانقسام بين دول الخليج إزاء حصار قطر، فالكويت وسلطنة عمان ترفضان الحصار، وستكون عوامل فشل الوحدة الاقتصادية الخليجية أكثر احتمالًا بعد أزمة الحصار الاقتصادي لقطر من قبل 50% من دول مجلس التعاون. بل ستبني قطر استراتيجيتها الإقليمية من خلال الاعتماد على روافد إقليمية خارج نطاق المجلس حيث إنها تعرضت لهذا الحصار مرتين.
الظروف التي تمر بها المنطقة العربية بشكل عام والخليجية بشكل خاص، تساعد على تمدد المشروعين التركي والإيراني بشكل كبير، فعلى الرغم من وقوف تركيا بجوار قطر في أزمتها الأخيرة لمواجهة الحصار الاقتصادي من قبل السعودية والإمارات والبحرين، لم يكن ذلك على حساب علاقات تركيا الاقتصادية مع كافة دول الخليج، حيث اعتمدت تركيا دور الوسيط، والساعي لإنهاء الأزمة في إطار دبلوماسي، وعدم تبني خطاب عدائي مع الدول الخليجية التي حاصرت قطر، وفي نفس الوقت مثلت الأزمة مخرجاً لإنعاش الاقتصاد التركي، عبر الخطوط الملاحية الجوية لمد قطر باحتياجاتها من الغذاء وباقي السلع المصنعة.
أما إيران فقد استفادت من القرب الجغرافي وأتاحت موانئها لخدمة الاحتياجات القطرية مع العالم الخارجي، وبذلك تكون إيران قد دعمت علاقاتها الاقتصادية مع ثلاث من دول الخليج، هي قطر والكويت وسلطنة عمان، وبالتالي تمتلك أوراق إفشال حصار السعودية لها في المنطقة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
يمكن القول إن الفترة القادمة سوف تشهد انحسارًا لدول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، في المحيط الإقليمي على الصعيد الاقتصادي، بسبب سوء إدارة المرحلة الماضية من جهة، وضعف ما تملكانه من أدوات التأثير المالي والاقتصادي على كل من تركيا وإيران من جهة أخرى.