في أربعينيات القرن العشرين خرجت مؤسسة البنك الدولي إلى حيز الوجود، لتمارس دوراً ملموساً في اقتصاديات أوروبا، خاصة بالدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية. وانتظرت الدول النامية الواقعة خارج القارة العجوز قيام البنك بدور مماثل، لكن هذا الأمر لم يتحقق.
وشاركت بعض الدول العربية في تأسيس البنك الدولي، ومنها مصر، باعتبارها من الدول النامية، كما انضمت كل هذه الدول لعضوية البنك بعد ذلك حينما نالت استقلالها بعد النصف الأول من القرن العشرين، ولا تخرج دولة عربية واحدة من تصنيف الدول النامية، وبالتالي فهي وثيقة الصلة بالبنك ومؤسساته ومشروعاته.
وشهدت العاصمة الأميركية واشنطن اجتماعات الربيع السنوية للبنك والصندوق الدوليين خلال الفترة 21-23 أبريل/نيسان 2017، وبهذه المناسبة أصدر البنك الدولي تقريره السنوي لاستعراض نشاطاته، وتبين من بين صفحات التقرير أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (التي تضم جميع الدول العربية) قد أتت في ذيل باقي أقاليم العالم من حيث الاستفادة من أنشطة التمويل البنك، ففي عام 2016 بلغ مجموع ارتباطات البنك الدولي ومؤسسة التمويل التابعة له، لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 5.20 مليارات دولار، بينما بلغت قيمة مدفوعات البنك للمنطقة 4.47 مليارات دولار.
وتبلغ نسبة ارتباطات البنك الدولي ومؤسساته في المنطقة 11% من إجمالي ارتباطاته عالمياً في عام 2016، وهي الأقل مقارنة بباقي أقاليم العالم في نفس العام، كما بلغت نسبة مدفوعات البنك ومؤسساته للمنطقة 13% من إجمالي مدفوعاته عن عام 2016، وهي كذلك الأقل بين نسب مدفوعات البنك ومؤسساته لباقي أقاليم العالم.
وبلا شك فإن انخفاض قيمة المدفوعات عن قيمة الارتباطات، يرجع إلى مجموعة من العوامل، منها عدم استيفاء البلدان بدول المنطقة للشروط المفروضة من قبل البنك ومؤسساته، أو عدم اعتماد البرلمانات بدول المنطقة للاتفاقيات مع البنك الدولي لدخولها حيز التنفيذ، أو عدم سماح الظروف الأمنية والسياسية الداخلية للدول من تنفيذ مشروعات البنك.
ويلاحظ أن تعامل الدول العربية مع البنك الدولي ممتد وبخاصة في فترة ما بعد التسعينيات، بعد أن وقعت العديد من دول المنطقة اتفاقيات مع كل من صندوق النقد والبنك الدوليين للإصلاح الاقتصادي، مثل مصر وتونس والمغرب والأردن والعراق، ومؤخرًا استقبلت العديد من الدول النفطية العربية بعثات صندوق النقد الدولي، وأصبحت البعثات الفنية للمؤسستين تزور المنطقة بشكل دوري، وتصدر تقاريرها عن الأداء الاقتصادي لدول المنطقة، بل وتصبح هذه التقارير محل تنفيذ من قبل الحكومات.
لكن مع هذه العلاقة الممتدة عبر سنوات للبنك الدولي ومؤسساته مع دول المنطقة، لماذا لم يتغير واقع اقتصاديات هذه الدول، كما حدث مثلًا مع الاقتصاديات الأوروبية عقب الحرب العالمية الثانية؟ فلم نجد مثلًا أن مشكلة هيكلية من مشكلات الاقتصاديات العربية قد حلت عبر استثمارات البنك، كالبطالة، أو تحسن الخدمات الصحية، أو وجود نقلة في البنية الأساسية، أو وجود نقلة نوعية في الصادرات السلعية والخدمية.
وبنظرة تحليلية للواقع نجد أن غياب أثر استثمارات البنك الدولي ومؤسساته بدول المنطقة يعود لمجموعة من الأسباب منها:
- ضآلة الاستثمارات الموجهة للمنطقة العربية من قبل البنك الدولي ومؤسساته، فحسب الأرقام التي أوردها تقرير البنك لعام 2016، نجد أن قيمة المدفوعات من البنك ومؤسساته للمنطقة خلال سنوات 2014 و2015 و2016 كانت 1.93 مليار دولار، و1.97 مليار دولار، و4.47 مليارات دولار على التوالي. ويلاحظ أن زيادة المدفوعات كانت محدودة بين عامي 2014 و2015، بينما ارتفعت المدفوعات في عام 2016 بنحو 2.49 مليار دولار، كان لمصر وحدها مليار دولار منها.
وإذا أخذنا عام 2016 باعتباره أفضل السنوات لمدفوعات البنك الدولي لدول المنطقة، نجد أن المبلغ لا يمكنه تحريك التنمية في دولة واحدة بالمنطقة، فضلًا عن كل دول المنطقة، في ظل المشكلات الاقتصادية الهيكلية التي تعاني منها الاقتصاديات العربية.
- المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة تزداد سوءاً مع مرور الوقت، وتتراجع معدلات أداء القطاعين العام والخاص، مما جعل من كل دولة من دول المنطقة تحتاج إلى استثمارات ضخمة للخروج من تلك الأزمات، وهو ما لم يُقدم عليه البنك الدولي ومؤسساته، أو صندوق النقد الدولي.
وعادة ما تأتي استثمارات البنك الدولي بعد اتفاقيات للإصلاح الاقتصادي مع دول المنطقة، وفي إطار ما يسمى معالجة الآثار الاجتماعية السلبية لبرامج الإصلاح الاقتصادي، وتعمل برامج البنك الدولي على أن يكون تمويل هذه البرامج مشتركاً، كما هو حال مشروعات "الصندوق الاجتماعي للتنمية" والذي أنشئ في أكثر من دولة عربية، لدعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، ومواجهة الخارجين من المؤسسات الحكومية في إطار الخصخصة أو المعاش المبكر، فتدفع الحكومات نسبة عادة ما تكون 50%، ويدفع البنك الباقي.
- طبيعة الاستثمارات الخاصة بالبنك الدولي، عادة ما تكون ممتدة لفترات زمنية تصل لخمس سنوات أو أكثر، مع صغر قيمتها، فلا يلمس لها أثر في الأجلين القصير والمتوسط، كما أن مشروعات البنك الدولي ومؤسساته، تركز منذ عقد ونصف مضى على المشروعات المرتبطة بأهداف الألفية، التي وضعت من قبل الأمم المتحدة، مثل القضاء على الفقر المدقع، والجوع، والتنمية المستدامة، ومشروعات التشغيل الخاصة بالفئات المهمشة، والتركيز على التمويل الخاص بالمشروعات متناهية الصغر والصغيرة، أو تلك المشروعات العامة كثيفة التشغيل، مثل تبطين الترع والمصارف، أو تشجير الطرق.
- واقع المنطقة العربية غير المستقر سياسيًا وأمنيًا، منذ مطلع التسعينيات، وكذلك ما تعيشه المنطقة بعد فشل ثورات الربيع العربي، أعطى انطباعًا بعدم تهيئة مناخ الاستثمار سواء للاستثمارات المحلية أو الأجنبية، أو استثمارات المؤسسات الدولية. فالحروب الأهلية تشمل العراق وليبيا واليمن وسورية، ولها تداعياتها السلبية على دول الجوار، من نزوح جماعي وهجرة للخارج.
- أيضًا منذ فترة اتخذت استثمارات البنك الدولي الدخول في تمويل مشروعات الدعم الفنية، كالتطوير الإداري، أو المشروعات الخاصة ببناء قواعد بيانات، مما جعل أثرها غير ملموس للمواطن، وفي الغالب ما تأخذ الدول نتائج هذه المشروعات ولا تعمل بها على أرض الواقع، على اعتبار أنها كانت مجرد عمليه استهلاك لتمويل متاح من مؤسسة دولية، ولا تمثل إضافة أو ارتباطاً بخطط التنمية.
- تبقى المؤسسات الدولية ومن بينها البنك الدولي، محكومة بتوجهات القوى الكبرى، خاصة أوروبا وأميركا، حيث تسيطر على مجالس إدارات هذه المؤسسات، والقرارات الخاصة بها، ومن الواضح أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا يحظى باهتمام أوروبا وأميركا بعد، أو أنهم يريدون لها البقاء في مستنقع التخلف الاقتصادي لأكبر فترة ممكنة.
الخلاصة أن أداء البنك الدولي وغيره من المؤسسات الدولية والإقليمية، يؤكد حقيقة، أن التنمية والإصلاح الاقتصادي، لا يقومان إلا من خلال أجندة وطنية، وبما يتناسب مع بيئة كل دولة، وفي ظل المدخرات المحلية، وأن المساعدات أو الاستثمارات الخارجية ليس لها دور أكثر من المساعدة، ولا تحمل دوراً رئيسياً في مشروع التنمية.