لا تزال الحرب التي أعلنتها روسيا ضد أوكرانيا قائمة، ومنذ بداية تلك الحرب في نهاية فبراير/شباط 2022، ثمة حالة من الإرباك يمر بها الاقتصاد العالمي، لما تمتلكه روسيا من أوراق اقتصادية تؤثر على ملفات الطاقة والغذاء، ولا يزال العالم يعيش واحدة من أعتى موجات التضخم التي ضربت الاقتصاديات المتقدمة والنامية على حد سواء بسبب الحرب.
ولا يزال العالم يبحث عن مخرج من التداعيات السلبية لحرب أوكرانيا، وما جرى من محاولات لحلحلة بعض الأزمات، لا يمر إلا بمشاركة وموافقة روسية، كما حدث في اتفاقية إسطنبول بشأن اسئناف تصدير الحبوب والأسمدة من أوكرانيا. وثمة درس مهم للعرب من تمرير اتفاق إسطنبول، وهو كيف استطاعت روسيا أن تحدث ثقبًا جديدًا في جدار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل أميركا وأوروبا، فالاتفاق كما يسمح بتصدير الحبوب من أوكرانيا، يضمن تصدير الحبوب والأسمدة الروسية إلى كل دول العالم.
كما أن ما حدث من خلاف كبير بين أميركا والصين، بشأن زيارة نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي لجزيرة تايوان، لا يمكن قراءته بعيدًا عن الجوانب الاقتصادية، التي جعلت بكين تفكر بعمق قبل الإقدام على خطوة إعلان الحرب على تايوان.
وفي منطقتنا نجد أن العدوان على غزة من قبل إسرائيل، أمر متكرر، وفي كل مرة تخرج دولة الاحتلال من تلك الاعتداءات بلا عقاب، بل الأدهى أن العرب نسوا أو تناسوا قضيتهم المركزية وهي فلسطين، فسارعت بعض الدول العربية بإبرام اتفاقيات سلام مع إسرائيل (مصر، والأردن، والسلطة الفلسطينية)، والبعض الآخر دخل في مشروعات تطبيع (الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب) تسمح لإسرائيل بأن تكون جزءًا من نسيج المنطقة العربية.
والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، تستدعي مقارنة سريعة، بين حالتي روسيا والصين، والأداء العربي، فالحالة العربية، تظهر اقتصاديات وثروات الدول العربية بلا أنياب، بل قد تجعلها في حالة يمكن وصفها بالعدم.
ليس ذلك من قبيل المبالغة، أو تهييج العواطف، فالتاريخ لا يزال يحفظ واقعة وقف تصدير النفط العربي للدول الغربية في حرب 1973. فالموقف العربي التاريخي أحدث حالة من الفزع لدى الدول الغربية، بل جعل الغرب وأميركا يفكران في أدوات جديدة لإحكام السيطرة على النفط العربي، عبر وسيلة ناعمة هي إنشاء "وكالة الطاقة الدولية"، وأخرى خشنة من خلال التخطيط لوجود الأسطول الأميركي في المياه الدافئة للخليج، من أجل ضمان تدفق النفط العربي.
عمدت السياسات الغربية فيما بعد نصر أكتوبر 1973، على أن تنتزع أنياب الاقتصاد العربي، سواء من خلال النزاعات البينية، أو وجود حكومات تمتلك نظرة قاصرة لأمنها القومي، بعيدًا عن المحيط العربي الكامل، فنتج بالفعل اقتصاديات عربية متخلفة، غير قادرة على امتلاك القوة السياسية والعسكرية، كذلك يغيب عنها توظيف ما لديها من ثروة في إدارة صراعها مع عدوها التاريخي والاستراتيجي، وهو إسرائيل. وما يحدث في فلسطين قضية إنسانية وعربية وإسلامية بالدرجة الأولى، فالأرواح التي أزهقت، والملايين التي شُردت، ومعاناة من بقي في فلسطين، يستأهل أن يكون هناك موقف عربي جاد، لتحرير فلسطين، بعيدًا عن الأداء المهترئ على مدار ما يزيد عن 7 عقود.
فبقاء السياسة المعلنة من قبل بعض الساسة العرب، بأن النفط ليس سلعة سياسية، ولكنه سلعة اقتصادية يجب عدم توظيفها سياسيًّا، ثبت عدم صحتها، بل ثبت عدم مروءتها، في ضوء ما شهدناه مؤخرًا في التجربة الروسية، وفي العديد من الصور التي تبرهن أن الثروة لا تنفصل عن السلطة، وكلاهما خادم للآخر.
بل رأينا كيف تصرفت أميركا إبان وجود ترامب في السلطة تجاه الصين، ومنعها من الحصول على التكنولوجيا اللازمة لصناعة الهواتف والحواسب الإلكترونية، وهو ما يبرهن على توظيف الاقتصاد في صراع استراتيجي على إدارة الاقتصاد العالمي، وتشكيل خريطة القوى الاقتصادية العالمية.
لا تزال الثروة العربية، سواء كانت تتعلق بالنفط، الذي هو عصب الحضارة الحديثة، أو تلك التريليونات من الدولارات التي ترزخ في بنوك أوروبا وأميركا وآسيا. وتمتلك الدول النفطية العربية قرابة 2.6 تريليون دولار، استثمارات خارجية للصناديق السيادية، وهي أموال كفيلة بأن تحرك كثيرًا من المياه الراكدة، ولكنها مغيبة عن إدارة الصراع مع إسرائيل، ولم يعد يُستخدم بعد مصطلح "الصراع العربي الإسرائيلي"، وحل مكانه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ثم اختُصرت القضية الفلسطينية في مسمى قضية السلام في الشرق الأوسط.
النفط والمال ليسا عصب التأثير الاقتصادي للعرب في الساحتين الإقليمية والدولية فحسب، فهناك الممرات الدولية التي تُمسك بعصب حركة التجارة بين الشرق والغرب، وكذلك العديد من الثروات الطبيعية التي تمثل سلعًا استراتيجية في السوق الدولية، ومن شأن كل ذلك أن يُوظف في قضايا المنطقة العربية بشكل عام، وفي قضية فلسطين بشكل خاص.
ومما يدلل على المعارك الخطأ التي يخوضها العرب، وتساعد على أن يكون اقتصادهم بلا أنياب، أن المال السياسي لبعض الدول العربية ساعد على هدم ثورات الربيع العربي، بل وساهم كذلك في أفريقيا لتمهيد الطريق لتمكين إسرائيل هناك.
ولا يخفى على أحد أن ثورات الربيع العربي كانت من أكبر الداعمين للقضية الفلسطينية، بل استبشر البعض بأن الواقع العربي الجديد في ظل ثورات الربيع، قادر على تغيير معادلة الصراع الإسرائيلي، لصالح فلسطين.
فمتى يُحسن العرب توظيف ما لديهم من ثروات في تحقيق أمنهم القومي، وتحرير فلسطين؟ فالاقتصاد العربي ليس بخير في ظل وجود إسرائيل، فقد رأينا كيف اغتصبت إسرائيل غاز شرق المتوسط في فلسطين، وسعت لتنازع باقي دول المنطقة في السيطرة على إدارة الغاز في تلك المنطقة بمساعدة أميركية وغربية.
إن إسرائيل استغلت الأزمة التي تعاني منها أوروبا بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، من خلال تخطيطها عبر مصر لتصدير غاز منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا، بينما العرب يغيب عنهم هذا التوظيف الاستراتيجي، الذي يمنحهم حلولًا ممكنة لقضيتهم العادلة في فلسطين.
في اليوم الذي بدأت فيه إسرائيل الاعتداء الأخير على غزة وهو 5 أغطس/آب 2022 كانت أسعار النفط في السوق الدولية تشهد عملية تهدئة، لتنزل عن سقف 100 دولار للبرميل، وهو ما جعل البعض يتفاءل بشأن انخفاض أسعار الطاقة، وبداية خطوة لهدوء معدلات التضخم. وكان من شأن صدور أي قرار عربي، مع بداية الاعتداءات الإسرائيلية على غزة -وإن استغل فيه تكتل "أوبك بلس" تخفيض سقف الإنتاج- أن يربك السوق الدولية للنفط، وأن يجعل أميركا وأوروبا تعيدان النظر في دعمهما الدائم لإسرائيل في اعتداءاتها على غزة، ومنع إسرائيل من مواصلة ممارساتها الهمجية.
فروسيا لديها الآن موقف سلبي تجاه إسرائيل، بسبب مساندة تل أبيب لأوكرانيا، وثمة خطوات اتخذتها روسيا تجاه وكالة الهجرة اليهودية في موسكو، ويمكن توظيف هذه الحالة، لصالح الموقف العربي لمساندة فلسطين، وبخاصة أن روسيا لا تتوفر لديها الآن خيوط مع دول أخرى للوقوف في وجه أميركا وأوروبا، ومن شأن ترتيب مشترك بشأن بقاء أسعار النفط مرتفعة أن يفيد كلًّا من روسيا والعرب.