الحديث عن العالم الإسلامي واقتصادياته يُثِير تساؤلاً أساسيًّا في ذهن المرء ويستوقفه حين يفكر بالأمر: لماذا هذا التخلف الاقتصادي لدول يدعو دينها إلى التقدم والحضارة واحترام قيم العمل، ويعتبر عمارة الأرض جزءاً أساسيًّا من عبادتها ومشروعها الحضاري؟!!
والإجابة لا تحتاج إلى كثير من التفكير، فهذه الدول منذ استقلالها "الرسمي" من الاستعمار الغربي فقدت الذاتية في اختيار نماذج التنمية التي تتبعها، فضلاً عن ممارسات خاطئة من قبل الإدارات الاقتصادية لكثير من هذه الدول جنحت إلى المصالح الشخصية، وعلى رأس الأمر: عدم وجود رؤية تعكس المصالح القومية والوطنية لهذه البلدان.
في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد"، رصد المفكِّر الإسلامي المتميز "مالك بن نبي" - رحمه الله - حقيقة هامة وهي أن المعادلة الاجتماعية في البلاد الإسلامية تختلف عنها في المجتمعات الغربية، ودلَّل على ذلك بتجربة إندونيسيا بعد استقلالها في مطلع الستينيات، عندما استعانت بالعالِم الاقتصادي الألماني "شخت"؛ ليضع لها خطة التنمية الاقتصادية، وكانت نتيجتها الفشل، بينما الرجل هو واضع خطة النهوض بالاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، والتي خرجت منها ألمانيا بهزيمة أتت على الأخضر واليابس.
من المبادئ الأساسية التي تدرس في النظرية الاقتصادية، أن علم الاقتصاد علم اجتماعي يؤثر ويتأثر بالكثير من العلوم، ومن هذه العلوم، العلوم السلوكية، والإيمان بالله، كما تُقِرّه الرسالة الإسلامية، دافع إلى العديد من السلوكيات الإيجابية على مستوى الفرد والمجتمع. وتأتي التصرفات الاقتصادية سواء على مستوى الفرد أو المنشأة أو القطاع أو الدولة انعكاسًا لعقيدتها وتصوُّرها لرسالة الإنسان بصفة عامة والمال بصفة خاصة.
والملاحظ أن تجارب الدول الإسلامية في المجال الاقتصادي أخذت من الحضارة الغربية الكثير في اعتبار أن المادة هي كل شيء، ولا مانع من بقاء بعض الشعائر الدينية المنفصلة تمامًا عن السلوك الاقتصادي القويم، وهو لُبّ المفهوم العلماني الغربي للكون والحياة. وحتى نكون مُنْصفين، فإن عملية النقل عن الغرب كانت طريقتها خاطئة، فقد تم الأخذ بسلبيات النظام الغربي دون النظر إلى جوانبه الإيجابية، وهو ما جعلنا نقع في خسارة للدنيا والآخرة.
من وجهة نظري، من الصعب تحليل الأوضاع الاقتصادية في البلدان الإسلامية بعيدًا عن عنصر "الإيمان بالله"، وإن كان من العناصر غير المادية التي لا يمكن قياسها، إلا أن انعكاساته المادية يمكن الاستدلال عليها في حالة نقصه وزيادته، حيث يصاحب الإيمان بالله العمل وفقًا لمنهجه الذي يفرض المحافظة على موارد الدولة وتنميتها، والسعي لتحقيق الربح الحلال، وتحريم الاحتكار، وعدم الغش والتدليس، والسعي لتوفير العمل للغير، وأن مقياس جمع المال هو "الحلال والحرام" الذي يحفظ على الناس أموالهم وأعراضهم.
معظم - إن لم يكن كل - البلدان الإسلامية هي من البلدان النامية، بل والمحزن أن هناك نحو 21 دولة إسلامية من الدول الأقل نموًّا على مستوى العالم والبالغ عددها 48 دولة. وهذا الوضع المأساوي له أسباب خارجية، وأخرى داخلية، وهي ما سنركز عليها باعتبار أنها من صنع أيدينا، والتي نرى أن السبب الرئيسي لوقوعها نقص أو غياب الإيمان بالله عز وجل:
لقد قوبلت دعوات الإصلاح لتجاوزات المتعولمين، المتجهين بـ"التنمية" إلى نماذج لا تتفق ومقدرات وإمكانات الأمة، بمخاوف "التهميش الدولي" وأن اعتبار ما يسمونه "التنمية" مقدم على كل الاعتبارات، وكأن أمر عقيدة الأمة ودينها لا يعنيهم في شيء، وكأنه لا يهدف إلى ذلك بحقه، فكانت النتيجة مزيد من التخلف.
ولا يحفظ ماء وجه بعض الدول الإسلامية في المحافل الدولية سوى بضع صور التكافل الاجتماعي التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية والأفراد بعيدًا عن الدولة، وقد دعا هذا الأمر البنك الدولي مؤخرًا لدراسة الزكاة كأداة مالية لمعالجة مشكلة الفقر، وكأن البلدان الإسلامية لا ترى أو تعرف شيئًا عن تلك الفريضة التي تُعَدّ ثالث شعائر الإسلام، والتي أعدت فيها الجامعات والمعاهد المختلفة عشرات الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراة لمختلف التطبيقات الاقتصادية والمالية، باعتبارها مخرج للمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها تلك الدول.
الحديث عن الاقتصاد الإسلامي والقيم باعتبارها مكونه الأساسي مثير للجدل، سواء على الصعيد الأكاديمي أو العملي، فعلى الصعيد الأكاديمي لا يزال البعض يرفض أن يُوصف علم الاقتصاد بأنه إسلامي بحجة أن علم الاقتصاد علم مجرد، وإلا جاز لنا أن نسمي اقتصاد مسيحي أو يهودي أو بوذي وهكذا…، فبينما كنا ندرس في مرحلة البكالوريوس كان أستاذنا من المؤمنين بالمذهب الاشتراكي، وكانت تدور بيننا وبينه الكثير من المناقشات في مقارنات بين الفكر الاقتصادي الإسلامي وغيره من المذاهب، وكانت إجابته المفضلة: "إنكم لا تفرِّقون بين الأخلاق والاقتصاد كعلم".
وكان أحد الأمثلة للحوار القائم بيننا سؤاله لنا: "هل إذا وَضَع محل العصير على لافتته الخارجية الآية الكريمة "وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا"، أصبح من وجهة نظركم محلاًّ إسلاميًّا؟
وكانت إجابتنا: "لا، ليضع ما يشاء من لافتات، ولكن عليه أن يقدم مشروبًا صحيًّا خاليًا من الغش، وبسعر مقبول، وبذلك يكون محلاًّ إسلاميًّا".
ثم جاءت مشكلة توظيف الأموال الشهيرة في مصر ليستدل أستاذنا على خطأ مذهبنا بتسمية الاقتصاد الإسلامي، فمن وجهة نظره أن الإسلام دين ويجب أن يُرفع عن المناهج الوضعية حتى لا ننال من كرامته. بينما كنا نحن نزداد يقينًا بأن الإسلام دين شامل ينظم كافة مناحي الحياة مقدمًا منهجًا قويمًا يُمكِّن من ذلك، والاجتهاد إنما يكون في تطبيقه، وأن حاضرًا عاشته الأمة قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمن على هدي من الشريعة السمحاء لا بد أن يكون لها اقتصادها المميز، وعلينا أن ننقِّب في حضارتنا لنستخرج منها منهج أمتنا الاقتصادي، وأن ما وقع من أخطاء في تجربة توظيف الأموال في مصر كان بسبب غياب المنهج الإسلامي، وبالتحديد غياب الأخلاق، التي كان أستاذنا يرى استبعادها من التحليل الاقتصادي.
وعود على بدء لا بد من إيقاظ الإيمان في نفوس أفراد الأمة، حيث يكون الحافز لإقامة تنمية حقيقية تتسم بالذاتية، ومن جانب آخر يكون السياج المانع من الاجتراء على مواردها وإهدارها فيما لا ينفع، أو في تحقيق مصالح شخصية تضرُّ بالصالح العام، فالإيمان لا تحرِّكه إلا العقيدة، والعقيدة في تفسيرها البسيط هي: "تصور الإنسان عن الإله والكون والحياة وطبيعة العلاقة بينهم"، وقد تميز الإسلام بالربط بين مكونات العقيدة الثلاث الواردة في هذا التعريف.
ولا يخرج النشاط الاقتصادي عن هذا الإطار العقيدي، فالرغبة أو الحاجة تترجم إلى سلوك، ولهذا السلوك نتيجة إما إيجابية أو سلبية. فإذا ما كان الإيمان متوفرًا فإن النتيجة لا شك معروفة ويكون مردودها إيجابيًّا، وأما إذا غاب هذا الإيمان فإن النتيجة محكومة بالهوى الذي لا يفرِّق بين الحلال والحرام، ولا يعير حقوق الآخرين كثيرًا من الاهتمام. وهو ما يستدعي أن تتبنى الدول وجماعات الإصلاح دعوة إيقاظ الإيمان في نفوس الأمة، فكما يقولون "الناس على دين ملوكهم".