تتوالى المشكلات الاقتصادية الدولية، وتترك آثارها السلبية على الجميع، إلا أن حظ الشعوب العربية، أنها لا تمتلك حكومات قادرة على مواجهة هذه التحديات، مع استمرار النهج التقليدي، في النشاط الاقتصادي، من خلال الاعتماد على تصدير المواد الأولية، كالنفط والمحاصيل الزراعية أو المعادن.
كذلك تعتمد بعض الدول العربية، على المعونات الخارجية، أو التوسع في الاعتماد على القروض المحلية والخارجية، لتسيير نشاطها الاقتصادي القائم على النفقات الجارية، للرواتب والدعم، والقيام بوظائف الدولة التقليدية.
ولم تكن الدول العربية قد تعافت بعد من التداعيات السلبية لجائحة كورونا، التي ضربت الاقتصاد العالمي، نهاية عام 2019، وخلال عام 2020، فإذا بتطور جديد في تحور الفيروس، يواجه العالم باسم "أوميكرون"، الذي أوجد حالة من الهلع، أدت إلى اتخاذ العديد من الدول لخطوات احترازية، مثل منع استقبال الرحلات الخارجية، أو منع دخول الأجانب، وينتظر اتساع مثل هذه الخطوات، مما ينذر بالعودة مرة أخرى للإغلاق التام أو شبه التام، الذي عاش الاقتصاد العالمي كابوسه في 2020.
كانت أولى الضربات القاسية التي مُنيت بها الاقتصاديات النفطية العربية، هبوط أسعار النفط، يوم الجمعة 26 نوفمبر، بنحو 10%، وثمة توقعات بأن يشهد سوق النفط المزيد من الهبوط، إذا ما استمرت المخاوف من مواجهة "أوميكرون"، لتنهار بذلك أحلام تحسن الأوضاع الاقتصادية للدول النفطية العربية، لكي تتخفف من أعباء السنوات الثماني الماضية، والتي أوقعتها في عجز الميزانيات، والتوجه للاستدانة، واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي، أو السحب من أرصدة الصناديق السيادية.
تُعرّف اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الأمن الاقتصادي بأنه "الحالة التي تمكن الأفراد أو الأسر أو المجتمعات المحلية من تلبية احتياجاتهم الأساسية وتغطية المصاريف الإلزامية بشكل مستدام يحترم كرامتهم. وتشمل الاحتياجات الأساسية الطعام والماء والمأوى واللباس وأدوات النظافة الشخصية، بالإضافة إلى القدرة على تغطية مصاريف الرعاية الصحية والتعليم".
وفي الوضع الطبيعي، بعيدًا عن وجود مشكلات عالمية، نجد أن هناك دولا عربية تفتقد إلى تحقيق الأمن الاقتصادي، وهي تلك الدول التي تعاني من شدة الفقر، مثل السودان والصومال وموريتانيا واليمن وجيبوتي، وليس هذا فحسب، فثمة تفاوت ملحوظ في أداء الدول العربية متوسطة الدخل في توفير الأمن الاقتصادي لمواطنيها، كما هو الحال في تونس، والمغرب، ومصر، والأردن.
وحتى في حالة الدول النفطية العربية، التي لديها القدرات المالية على توفير الأمن الاقتصادي لمواطنيها، عبر استيراد السلع والخدمات، إلا أنها في ظل الأوضاع الجديدة، لتطوير فيروس كورونا، ستجد نفسها أمام فاتورة أعلى من حيث التكلفة، والوقوع تحت ضغوط أخرى تتعلق بمشكلات سهولة الإمداد، وعقبات تحول بعض الدول باتخاذ قرارات تتعلق بمنع تصدير بعض السلع، لتوفير مخزون استراتيجي منها لصالح مواطنيها.
وفي ضوء حالة الترقب والحذر، التي تنتاب العالم، ومن خلال بيانات حديثة لمنظمة الصحة العالمية، تحذر فيها من أنه في حالة تزايد حالات الإصابة بفيروس كوفيد 19 بخصائص "أوميكرون"، فستكون العواقب وخيمة، نجد أن ثمة تحديات تواجه الأمن الاقتصادي للدول العربية، ومن بين التحديات:
من الطبيعي أن تشهد دول المنطقة العربية، تراجعًا في معدلات نموها الاقتصادي، تأثرًا بالوضع العالمي، في ضوء تطورات متحور "أوميكرون"، وقد يتحقق ذلك في عام 2022، وستكون الدول النفطية العربية الأكثر تأثرًا بذلك، بسبب بنيتها الاقتصادية القائمة على النفط بشكل رئيس.
ويتطلب الأمر معالجات كبيرة، لمواجهة الرعاية الاجتماعية والصحية، فعلى الصعيد الاجتماعي، يستلزم الأمر تدابير لمواجهة ارتفاع معدلات البطالة، وتقديم مختلف صور الدعم لتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية لفئات المهمشين ومحدودي الدخل.
كما أن متطلبات الرعاية الصحية ستكون أكبر، بعد الحديث عن أن المتحور الجديد، قد يصيب من تلقوا اللقاح، وهو ما يجعل الحكومات العربية أمام متطلبات جديدة، إذا ما توفر لقاح جديد، لمواجهة "أوميكرون"، فضلًا عن توفير مستلزمات الوقاية، والتي للأسف يعتمد على استيرادها بشكل كبير من الخارج، ولا ينتج منها محليًا إلا القدر القليل.
وبشكل عام تعاني الدول العربية من تراجع نسبة إنفاقها على الرعاية الصحية، مقارنة بالمتوسط العالمي، فالتقرير الاقتصادي العربي الموحد يشير إلى أن إنفاق الدول العربية على الرعاية الصحية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بلغ 5.3% في عام 2017، بينما كان المتوسط العالمي، 9.9%، وهو ما يعني قابلية الحالة العربية لوجود عجز في الأمن الاقتصادي على صعيد الرعاية الصحية، وبخاصة إذا ما تصاعدت أزمة "أوميكرون".
منذ عقود، والمنطقة العربية تعاني من فجوة غذائية، قدرها التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، بنحو 32 مليار دولار سنويًا، فلم تغير الأزمات المتتالية على مدار عقود، من العقلية التي تدير منظومة الاقتصاديات العربية، بحيث تتجه لتأمين احتياجاتها من الغذاء عبر التكامل الاقتصادي العربي، أو تفعيل الجهود العلمية المعنية بتحسين الزراعات في الأقطار العربية.
وإذا ما استمرت هذه العقلية على ما هي عليه، لتوفير الأمن الغذاء العربي، عبر بوابة الاستيراد، فستجد نفسها أمام تكاليف أعلى مما كانت عليه، في ظل تطور أزمة متحور "أوميكرون"، فثمة توقعات بتعثر سلاسل الإمداد، وعجزها عن الوفاء باحتياجات كافة الدول في المواعيد المطلوبة.
وحسب تقديرات مؤشر متوسط أسعار الأغذية، الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة "الفاو"، فإن أسعار الغذاء شهدت زيادة 31.3% في أكتوبر 2021، مقارنة بما كانت عليه الأسعار في أكتوبر 2020. وقد تشهد أسعار الغذاء المزيد من الارتفاع في ظل التداعيات السلبية لتطورات الفيروس، وبالتالي فالمتوقع أن تعاني الدول العربية من فجوات في تلبية احتياجاتها من الغذاء، سواء لارتفاع التكاليف، أو بطء استجابة سلاسل التوريد، وهو ما يعني زيادة معدلات الجوع في المنطقة العربية، مما يتنافى مع تحقيق مفهوم الأمن الاقتصادي.
التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، يفيد أن 40% من سكان المنطقة العربية يعيشون تحت خط الفقر، وفق مؤشر إنفاق يومي بنحو 2.75 دولار، أما نسبة الفقراء ومن هم معرضون للفقر، فتشير التقديرات حسب التقرير إلى أنهم نحو ثلثي سكان المنطقة العربية، وعن مؤشر فقر الأطفال، فيقدر التقرير نسبتهم بنحو 44.1%.
وكانت تلك الأرقام تخص عام 2018، فما بالنا، وقد أتت جائحة كورونا بتداعياتها السلبية في عام 2020، وينتظر زيادة تلك التداعيات السلبية مع "أوميكرون"، وبذلك ستكون مهمة الحكومات العربية، شديدة الصعوبة في ظل أزمتها التمويلية.
ختامًا، يستحق مفهوم الأمن الاقتصادي كثيرا من اهتمام الحكومات والمجتمعات العربية، لاعتباره يتضمن حقوقا إنسانية بالدرجة الأولى، وهي منصوص عليها بشكل رئيس في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وكذلك معظم الدساتير العربية تتضمن النص على هذه الحقوق، ولكن بقي أن توضع الحكومات أمام مسؤولياتها، الإنسانية والتاريخية، وبخاصة في ظل أزمات ضبابية، ذات آثار متعددة، تتطلب تضافر الجهود. ولعل هذه الأزمة تدفع الدول العربية لنوع من التكاتف والتنسيق لمواجهة تحدياتها، فلم يعد للخلاف السياسي موضع، في أن يفرق الجهود لمواجهة تحديات الأمن الاقتصادي.