لا خلاف أن الطبيعة سبب رئيسي لأزمة الغذاء باليمن.. ولكن الممارسات السلبية التي انتهجتها الحكومة والأفراد ضاعفت من الشعور بالمشكلة؛ ليجني اليمنيون على أنفسهم ويزيدوا من معاناتهم.
كانت هذه هي الحقيقة التي أكدت عليها الندوة التي عقدت بجامعة الإيمان باليمن بالتعاون مع وزارة الزراعة والري، ووزارة التجارة والصناعة على مدى أربعة أيام بدأت من السبت 15 نوفمبر، ونوقش خلالها 50 بحثا علميا بين التخصصات العلمية الدقيقة لطبيعة الأراضي والمياه ونوعية الزراعات في اليمن، أو من حيث السياسات الاقتصادية والتجارية التي تخص قضية الأمن الغذائي.
كانت البداية لرسم ملامح هذه الحقيقة هو تحديد أبعاد قضية الأمن الغذائي في اليمن، حيث أوضحت الندوة أنها واحدة من البلدان التي تعاني من عجز شديد في الأمن الغذاء لاعتمادها على استيراد نحو 90 % من احتياجاتها من الغذاء، بسبب المشكلات التي تعتري قطاع الزراعة هناك.
وأشارت الدراسات المقدمة للندوة إلى أن 3 % فقط من أراضيها صالحة للزراعية، وأن هناك نسبة 85 % من هذه الأراضي يعتمد على الري المطري، بينما الزراعات المروية لا تزيد عن 15 %، وهو ما يجعل حجم المحصول الزراعي كل عام حسب حالة المطر.
والغريب أنه وفي ظل هذه الظروف، فإن حجم الاستفادة من مياه الأمطار في اليمن لا يزيد عن 3 %، وانتقدت الأوراق المقدمة الحكومة اليمنية في موقفها تجاه المزارعين، حيث وعدتهم بشراء محصول القمح، وعندما قام عدد كبير من المزارعين بزراعته، تخلت الحكومة عن وعدها وطلبت أن تشتريه بسعر السوق بعد أن انخفضت الأسعار العالمية، وهو الأمر الذي كبد المزارعين خسائر كبيرة، بل وعزم بعضهم على عدم زراعته مرة أخرى.
وقد كانت من الموضوعات التي أثارت نقاشا كبيرا داخل الندوة، ونالت إجماعا على محاربتها هي قضية زراعة القات، حيث أشير إلى أنه يستنفذ جزء كبير من المياه التي تعاني فيها اليمن من فقر شديد، فضلا عن مزاحمته لزراعة الحبوب والمحاصيل الرئيسية الأخرى؛ وذلك لأنه يعد من المحاصيل النقدية.
وتناولت دراسة أخرى نصيب الفرد اليمني من المياه، والذي قدر بنحو 250 مترا مكعبا في العام، وهو أقل بكثير عن المتوسط العالمي، والذي يصل إلى نحو 1500 متر مكعب في العام.
كما أن هناك نحو 22 % من الأسر اليمنية تعاني من الجوع، منها نسبة 7 % تصنف على أنها حالات جوع حاد، ونحو 14 % يعانون من الجوع بمتوسط تناول وجبة واحدة فقط في اليوم.
وأشارت أوراق الندوة أيضا إلى مشكلات تعرض الأراضي الزراعية في اليمن لمجموعة من المخاطر، منها: الكثبان الرملية، والسيول، والزحف العمراني، وطالبت الدراسات بمواجهة هذه المخاطر بشكل علمي وبمساعدة جادة من قبل الحكومة، سواء بسن تشريعات جديدة أو تفعيل القائم منها.
وأكد المشاركون بالندوة على أهمية دور المجتمع الأهلي في القضية، وأشار الشيخ عبد المجيد الزنداني، العالم اليمني البارز، ورئيس جامعة الإيمان في أكثر من مداخلة إلى أهمية هذا الدور لحل مشكلة الأمن الغذائي، خاصة في مجال الحبوب، والذي يمثل نحو 85 % من المكون الغذائي لطعام اليمنيين.
واقترح الزنداني أن تقوم كل شركة أو بنك أو وزارة أو هيئة حكومية بإنشاء مزرعة ورعايتها بشكل علمي واقتصادي، ودعا أيضا إلى تعظيم الاستفادة من الدراسات التي قدمت للندوة بشأن المياه الجوفية في المناطق التي أوضحت الدراسات أنها غنية بالمياه الجوفية، وأن رصيدها يمتد لنحو 500 سنة.
وعلق على الدراسة التي عرضت نجاح مركز البحوث الزراعية اليمني في تطوير بذور القمح؛ لتحقيق إنتاجية عالية بلغت نحو 5 أطنان من الهكتار بدلا من طنين، أن مثل هذه الدراسات تستحق أن تمنحها الدولة جوائز تشجيعية لتساهم البحوث بشكل أكثر فاعلية في تطوير الزراعة اليمنية.
وعرض المشاركون لأطروحات أخرى بشأن مساهمة المجتمع المدني منها ما يخص الجانب التوعوي من خلال المساجد والمدارس وأجهزة الإعلام، للحث على ترشيد استخدام المياه وأهمية توفيرها للزراعة، أو ترشيد العادات الغذائية لتتنوع المكونات الغذائية لطعام اليمنيين، بحيث تقل فيها الحبوب، وتزيد مكونات أخرى مثل اللحوم والألبان والبيض وغيرها.
كما كان لمقترح إحدى الدراسات بإنشاء صناديق وقفية لمساعدة فقراء المزارعين، أثرا طيبا وقبولا من الحاضرين، والذي طالبوا بأهمية أن تكون مصادر تمويل هذا الصندوق محلية بالأساس، وأن يوجه إنفاقه على البنية الأساسية لمزارع الفقراء، أو تقديم المعدات الزراعية الحديثة بأجور رمزية، أو توفير البذور والسماد كذلك.
ولم تغفل الندوة دور المؤسسات المالية في علاج المشكلة، فتناولت ورقتين من أوراقها دور المصارف الإسلامية في تحقيق الأمن الغذائي بشكل عام، باعتبار أن رسالة هذه البنوك هي تنمية المجتمعات الإسلامية بشكل عام.
وكانت أكثر الصيغ الإسلامية التي تم طرحها في تمويل المزارعين، هي صيغة السَلَم، حيث يقوم البنك بتمويل المزارع مقدما بثمن المحصول على أن يقوم باستلام المحصول منه عند الحصاد وبيعه، واستيفاء حق البنك، وإعطاء ما يتبقى من ربح للمزارع، وبذلك يكون قد ساهم البنك الإسلامي في تمويل المشروعات الزراعية بصورة تخفف عن كاهل المزارعين، خاصة الفقراء منهم.
إلا أن نقدا وجه للبنوك الإسلامية في هذا الخصوص من حيث إنها بنوك تجارية ولا تهتم بمثل هذا النوع من التمويل، ولم تسلم البنوك التجارية التقليدية من النقد وانصرافها عن قضايا التنمية واهتمامها بتحقيق الأرباح بالدرجة الأولي.
وطالب المشاركون بأهمية أن تعيد الحكومة النظر في آلية عمل بنك التسليف الزراعي، والذي تحول عن الهدف الرئيسي الذي أنشأ من أجله، وتحول لبنك تجاري شأنه شأن بقية البنوك الأخرى.
وعلى طريقة الأغنية الشهيرة "لو بطلنا نحلم نموت"، طمحت الندوة إلى بلورة إستراتيجية، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب في اليمن،
لكن الجميع اتفق على أنه ليس بالإمكان الوصول إلى هذا الهدف في الأمدين القصير والمتوسط، ولكن يمكن تحقيق ذلك في الأمد الطويل، حيث أنتج اليمن من الحبوب فقط 940 ألف طن في عام 2007، بعد أن كان في عام 2002 نحو 620 ألف طن، ومع هذه الزيادة المتحققة في عام 2007، إلا أن اليمن يستورد نحو 90 % من احتياجاته من الحبوب.
وقد رصدت الندوة معظم المشكلات التي تواجه هذا الهدف منها: الفقر المائي، وطبيعة الزراعات في اليمن، والتمويل، وسياسة الحكومات السابقة بالاعتماد على الخارج، وتركيز الواردات اليمنية على مصادر محددة مما يعرضها لخطر أزمة أو مجاعة إذا ما تعرضت العلاقة السياسية لليمن مع هذه البلدان لأية مشكلة.
وخلصت إلى إستراتيجية لتحقيق نحو 50 % من الأمن الغذائي في الحبوب خلال 5 سنوات، بافتراض مساهمة كل من الحكومة والمجتمع الأهلي والمساهمات الخارجية، خاصة من قبل الهيئات العربية والإسلامية في تمويل الخطة الخمسية المنبثقة من هذه الإستراتيجية.
وصلت الندوة في نهايتها إلى توصية رئيسية وهي الإيمان والتسليم المطلق بأن الله سبحانه وتعالى هو المتكفل بالعباد، وأن الواجب على الناس بذل الأسباب، عن طريق الاعتماد على المنهج العلمي في تحقيق الأهداف المرجوة، وفي هذا الإطار تم التأكيد على مجموعة من الإجراءات هي:
تفعيل وتحديث وسائل الاستفادة من تكنولوجيات حصاد مياه الأمطار، خاصة وأن ما يستفيد منه من مياه الأمطار في اليمن لا يتعدى نسبة 4 %.
تبني التمويل الإسلامي عن طريق الصيغ الاستثمارية الشرعية، وتحقيق التمويل اللازم للإنتاج الزراعي بشكل عام، وإنتاج الحبوب بشكل خاص.
الاهتمام بالإعلام وجعله أداة بناء للقيم، والاستفادة من جميع وسائله المختلفة في نشر الوعي الزراعي والبيئي.