قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد بالانقلاب على التجربة الديمقراطية، الممتدة هناك لما يزيد عن 10 سنوات، لم يكن قرارًا قُطريًا بنسبة 100%، ولكن داعمي الانقلابات في المنطقة من بعض الدول الخليجية لهم بصماتهم الواضحة.
فهؤلاء لهم مساهمتهم في التجربة الأولى بمصر، حيث لوحظ أن نفس السيناريو الذي جرى في تونس طُبق من قبل بمصر في يوليو/تموز 2013، ثم في السودان في ديسمبر/كانون الأول 2019، وحاولوا في ليبيا.
حتى إن هناك تقارير تتحدث عن أن السعودية والإمارات لم تكونا بعيدتين عن محاولة الانقلاب في تركيا في يوليو 2016، وانقلاب السحر على الساحر في اليمن، الذي أصبح مستنقعًا لتوريط الحكومتين السعودية والإماراتية منذ مارس 2015.
من واقع خبرة رصد دور داعمي الانقلابات في المنطقة، لوحظ أن لهم اهتماماً واضحاً بالتركيز على البعد الاقتصادي وتوظيفه في تأجيج الشارع، واعتبار الأزمات الاقتصادية مبررًا للانقلاب، فيتم تصعيد الملفات الاقتصادية التي تعاني منها الدول المختلفة، ثم توظيف القوى الناعمة، وكذلك الدولة العميقة، لإيصال الناس في الشوارع إلى حالة من السخط بشكل كبير.
ولا مانع من تقديم مساعدات رمزية لا يكون لها أثر في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وكأنهم يمدون يد المساعدة، ولا يغيب تفعيلهم لدور كبير للدولة العميقة التي لهم بها علاقات ممتدة من قبل ثورات الربيع العربي.
فيكون دور ممثلي الدولة العميقة عرقلة أي خطوات من شأنها إحداث انفراجة في المشكلات الاقتصادية القائمة، وتعطيل وصول المساعدات من الدول والأفراد إلى مستحقيها.
ولكن بعد وصول الشارع إلى مرحلة الغليان، يتم الدفع بمنفذي الانقلاب لإجهاض التجربة الديمقراطية، كما حدث في عدة بلدان عربية، وكانت تونس آخرها.
تكون الخطوة الأولى بعد تنفيذ الانقلاب بأن تقدم الدول الداعمة له حزمة من المساعدات، من شأنها تهدئة الشارع وشعور المواطنين بأن أزماتهم الاقتصادية والاجتماعية في طريقها للحل. وعادة ما تقدم شحنات النفط المجانية بنسب ضئيلة، ثم الشحنات الأكبر من خلال القروض والتسهيلات الائتمانية
وفي حالة تونس، قد تركز الإمارات تحديدًا على تقديم مساعدات بشكل ملحوظ في مجال الرعاية الطبية لمواجهة جائحة فيروس كورونا، بحيث يشعر المواطن أن حكومة الانقلاب نجحت في مواجهة الأزمة، في حين أن الحكومات الديمقراطية كانت عاجزة عن الحل، وهي رسالة مبطنة لبناء مواقف سلبية لدى الشعوب تجاه الديمقراطية والحرية.
ولذلك، يُنتظر أن تكون هناك شحنات من المستلزمات الطبية والتطعيمات لتونس، وقد قامت مصر بإرسال شحنات من هذه المساعدات لتونس قبل الانقلاب بنحو أسبوعين.
أما المظهر الثاني الذي ستحتاجه تونس بشكل كبير، فهو تقديم ودائع بالبنك المركزي، من أجل الحفاظ على سعر صرف العملة المحلية، أو تمويل واردات سلعية، وهو أمر اتبعته دول الخليج الداعمة للانقلاب في مصر، وقدمت في ذلك الحين نحو 14 مليار دولار للبنك المركزي المصري، وكذلك تمت ممارسة نفس الإجراء في السودان وتقديم نحو 3 مليارات دولار على دفعات مختلفة للبنك المركزي السوداني.
ولكن على كل حال، لا يزيد الأمر عن كون هذه الودائع مجرد ديون جديدة على كاهل الاقتصاد التونسي، وقد تقدم هذه الودائع بدون سعر فائدة لفترة من عام إلى ثلاثة أعوام، ولكن بعد ذلك، ستكون بمعدل سعر فائدة يزيد عن أسعار الفائدة في السندات الأميركية، أو في السوق البريطانية.
عقب انقلاب مصر في يوليو 2013، صرح حكام الرياض وأبوظبي، آنذاك، بأنهم سوف يسعون لعقد مؤتمر مانحين لصالح مصر في نهاية عام 2013، إلا أنه عقد في مارس/آذار 2015 تحت عنوان المستقبل الاقتصادي لمصر في مدينة شرم الشيخ.
ويتوقع أن يتم نفس الأمر بالنسبة لتونس، بعد أن تتم خطوات من شأنها سيطرة الانقلاب على مقدرات الأمور الأمنية والسياسية، ولكن قد ينتهي الأمر بعدة مذكرات تفاهم، أو اتفاقيات مشروطة بموافقة البرلمانات، ولا مانع من وجود صفقة أو اثنتين بعدة ملايين من الدولارات، ليكون شكل المؤتمر في إطار وجود دعم مادي حقيقي.
وسبق لدول خليجية، خاصة الإمارات والسعودية، أن ساهمت في مؤتمر استثمار يخص تونس في عام 2014، قبل الانتخابات الرئاسية التي أتت بالباجي قايد السبسي رئيسًا للبلاد، والملاحظ أن الدول الخليجية وعدت وقتئذ بأنها ستقدم نحو 10 مليارات دولار لإقامة مشروع كبير لمدينة صناعية وخدمية، توفر نحو 250 ألف فرصة عمل للتونسيين، ولكن شيئا من ذلك لم يحدث على أرض الواقع.
وغالبًا ما تمهد مؤتمرات المانحين، أو الاستثمار، إلى اتفاق جديد مع المؤسسات المالية والدولية، وهو أمر تحتاج إليه تونس بشكل كبير لإحداث انفراجة في الوضع المالي المأزوم منذ فترة، حيث بلغت الديون الخارجية لتونس في إبريل/نيسان 2021 نحو 30 مليار دولار، وحسب مشروع موازنة 2021، تعاني تونس من فجوة تمويلية بنحو 6 مليارات دولار.
وهنا يبرز دخول مستثمرين سعوديين وإماراتيين لشراء مشروعات عامة في إطار برامج الخصخصة، وعادة ما تكون مشروعات سريعة العائد، في مجالات الطاقة أو الخدمات المالية، أو مشروعات التصنيع الغذائي، أو المشروعات الخاصة في مجالات التعليم والرعاية الصحية.
الدول الخليجية الداعمة للانقلاب في تونس، سوف تمارس نفس الأساليب التي مارستها في كل من مصر والسودان، من حيث العمل على شراء مؤسسات إعلامية عبر الوسائل المختلفة، سواء من خلال الشراء الكامل أو امتلاك حصة، لتكون مبرراً لتقديم الدعم اللازم، لاستمرار حالة تشويه الخصوم السياسيين واستمرار حالة الانقسام المجتمعي، وبما يجعل مجرد التفكير في مواجهة الانقلاب غير وارد في الأجلين القصير والمتوسط على الأقل.
آفة الاقتصادات العربية، حتى غير النفطية، أنها تفتقد لوجود قاعدة إنتاجية حقيقية في مجالات الزراعة والصناعة، وتونس ليست ببعيدة عن هذا التوصيف.
لذلك يرجح أن تندرج الاستثمارات، التي قد تضخها كل من الإمارات والسعودية في تونس خلال المرحلة المقبلة، في هذه الخانة، في المشروعات السياحية، والصناعات الاستخراجية، أو شراء بعض البنوك العامة أو الخاصة، ولكنها لن توجه على الأرجح أي استثمارات لمجال الصناعة التحويلية أو الزراعة، حتى تستمر تونس في حالة من التبعية للخارج، ويظل مجتمعها يعاني من الفقر والبطالة.
يلاحظ أن الإمارات تسعى بخطوات كبيرة وواسعة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، الذي أُعلن عنه في سبتمبر/أيلول 2020 بشكل علني، وإن كانت هناك خطوات تمت من دون الإعلان عنها من قبل ذلك التاريخ. ولكن يلاحظ أنه حصلت مساع خليجية لدمج السودان في مشروع التطبيع، بل كانت هناك شروط لتقديم المساعدات بقبول السودان بهذه الخطوة، وربما يتم التمهيد لإقدام تونس على مثل هذه الخطوة، وإن لاقت بعض الاعتراضات من قبل بعض قوى المجتمع المدني.
الفترة القادمة سوف تثبت صحة أو خطأ هذا التصور، ولكن المراحل التي ذُكرت لم تكن من وحي الخيال، ولكنها من واقع التجارب التي تمت في المنطقة على يد الدول الخليجية الداعمة للانقلابات على ثورات الربيع العربي.