الحملة التي قادها مؤخرًا محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، ضد مجموعة بارزة من الأمراء والوزراء السابقين والحاليين، بلا شك لها أسبابها السياسية، ولكن الفساد في السعودية متجذر، وتزداد معدلاته، فتقرير مكافحة الفساد لعام 2016 بين أن ترتيب السعودية تراجع في عام 2016 بنحو 14 درجة، مقارنة بما كان عليه في 2015، ففي عام 2016 جاء ترتيب السعودية في المرتبة 62 من بين 176 دولة يشملها التقرير، في حين كان ترتيب السعودية في عام 2015 بالمرتبة 48.
والملف للنظر أن تراجع ترتيب السعودية على مؤشر مكافحة الفساد تم في العام الثاني لتولي الملك سلمان السلطة، وفي ظل وجود ابنه الذي تدرج من ولي ولي العهد، إلى ولي العهد، وهو ما يعني أن مكافحة الفساد لها طابع سياسي لتوطيد عرى الحكم لولي العهد، وليس توجه من أجل ترسيخ الشفافية في المجتمع السعودي.
وغالبية الدراسات المعنية بتحليل الوضع الاقتصادي السعودي، تعي أن بنية النشاط الاقتصادي تفتقد إلى الشفافية، فالأعمال الحكومية، المعنية بالاستيراد ووجود المؤسسات الأجنبية والمتاجر الكبرى، غالبًا ما تكون حكرًا على الأسرة المالكة، وكبار رجال الأعمال المقربين من الأمراء، وغالبًا ما تكون هناك عمولات نظير دخول هذه الدائرة.
كما أن ما يتم تنفيذه من أعمال حكومية بقطاع المقاولات والإنشاءات، تكون من خلال كبار الأمراء ومن حولهم من رجال أعمال، ثم يتم تشغيل شركات الآخرين أو الأصغر حجمًا من الباطن، وأدى ذلك إلى الإخلال بالشروط الفنية المطلوبة، وهو ما ظهر في منشآت البنية الأساسية في عموم المملكة خلال السنوات القليلة الماضية، والتي كان من أبرزها أعمال الصرف الصحي، والمنشآت المعنية بمواجهة السيول، إذ تعطلت الحياة في كل من الرياض وجدة ومدن كبرى أخرى بعد هطول الأمطار، وأدى ذلك إلى إثارة الرأي العام السعودي، وطرح الكثير من التساؤلات حول الفساد داخل المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص معًا.
ما قام به ولي العهد السعودي، بتصدير لافتة مكافحة الفساد في السعودية، دور معهود في بلادنا العربية، فكل حاكم جديد يصدر عهده بمجموعة من القضايا التي تظهر حجم الفساد في العهد السابق له، وعادة ما تنتهي هذه القضايا بهروب المتهمين، أو وفاتهم في السجون، أو خروجهم بعد مصالحات، ودون أن يعرف الرأي العام مصير ثروات هؤلاء الفسدة. لكن يبقى الفساد كما هو بوجوه جديدة، ومجالات جديدة، فكما لكل عصر رجاله، فلكل عصر في دولنا العربية فاسدوه.
فما قام به بن سلمان في السعودية، لن يؤت أوكله، ما لم يؤد إلى بنية تشريعية جديدة تنظم النشاط الاقتصادي وتقضي على الخصوصية للأسرة المالكة، وتعطي المواطن الحق في الحصول على المعلومات، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية. كما أن العمل الإداري والسياسي في المملكة يحتاج إلى ضوابط لفترات وجود المسئولين في مناصبهم. فعلى سبيل المثال وزير المالية السابق إبراهيم عساف والموقوف بتهم فساد –من بينها أعمال توسعة الحرم الشريف- بقي في منصبه نحو 22 عامًا، في أكبر دولة مصدرة للنفط في العالم، ومع ذلك تحصل السعودية على ترتيب صفر في تقرير منظمة الشراكة الدولية للموازنة، بسبب عدم شفافية موازنة المملكة.
الأسماء التي تم تناولها ضمن الموقوفين في السعودية تضم كبار رجال الأعمال في السعودية، بل وعلى المستوى الإقليمي والدولي، ومن أبرزهم الوليد بن طلال، وقد ظهر أول رد فعل سلبي لقرار توقيف رجال الأعمال من خلال تراجع المؤشر العام للبورصة السعودية، وبخاصة أسهم شركة المملكة.
وإذا ما استمر النظام السعودي في الإجراءات القانونية لمحاكمة رجال الإعمال، فبلا شك سيؤثر ذلك على وضعهم المادي، وبخاصة إذا ما أدينوا في هذه القضايا. ومعروف عن معظم هؤلاء من أنهم كرجال أعمال كانوا أدوات النظام السعودي في العديد من الملفات الاقتصادية والسياسية، بل إن بعضهم ينظر إليه على أنه يدير أموال الدولة السعودية في شكل شركات خاصة.
فهل سيسعى بن سلمان بالتخلص من المجموعة البارزة من رجال الأعمال، والذين ينحدرون من عائلات ذات علاقات وطيدة بالأسرة المالكة، أو منحدرين من عائلات اقتصادية سيطرت لفترات طويلة على أنشطة اقتصادية بعينها؟ ويأتي بمجموعة جديدة تتفق وتوجهاته، حيث إن المجموعة القديمة تراكم لديها حجم من العلاقات الداخلية والخارجية ما جعلها مراكز قوى، قد يصعب توظيفها بشكل طيع في ضوء التوجهات الجديدة للملكة في عهد ابن سلمان.
المجتمع هو المستفيد بشكل كبير من مواجهة الفساد، إذا ما تمت بشكل حقيقي، إذ ينتعش النشاط الاقتصادي، وتعم العدالة، وتتحقق المنافسة بشكل سليم، وتؤدي إلى إخراج طاقات الأفراد والمؤسسات.
ولكن ستظل المواجهة الحقيقية للفساد في السعودية، متعطلة ما لم تتم عملية توزيع حقيقية للثروة في البلاد، وأن تتساوى فرص المواطنين في الحصول على العمل والثروة، دون وساطة أو محسوبية، أو عصبية قبلية، وأن تتم عملية محاسبة حقيقية عن توظيف الإيرادات العامة في المجالات المختلفة على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. ودون ذلك سيكون ما أعلن مؤخرًا بالسعودية مجرد توظيف سياسي سلبي لمكافحة الفساد.