تفقد الأرقام الخاصة بالمؤشرات الاقتصادية ودلالاتها، إذا لم يكن لها انعكاس إيجابي على حياة المواطنين، وفي المملكة العربية السعودية أعلنت الهيئة العامة للإحصاء أن الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية ارتفع في عام 2018 إلى 2.9 تريليون ريال (782.4 مليار دولار) مقارنة بـ 2.5 تريليون ريال (688.5 مليار ريال). أي أن هناك نتائج إيجابية بزيادة قدرها نحو 94 مليار دولار بالناتج المحلي.
ولكن تصريحات سلطان القحطاني المتحدث الرسمي لبرنامج حساب المواطن لوسائل الإعلام في 10 مارس 2019، تبين أن قاعدة المستفيدين بهذا البرنامج في اتساع، حيث بلغ عددهم 12.5 مليون فرد. والجدير بالذكر أن برنامج حساب المواطن، معني بدعم الأسر المتضررة من الإجراءات الاقتصادية التقشفية التي اتبعتها الحكومة السعودية منذ عام 2017.
وأضاف المتحدث بأن 44% من المستفيدين من البرنامج، حصلوا على كامل الدعم، بواقع ألف ريال سعودي شهريًا (266 دولار). وأن إجمالي مخصصات البرنامج منذ بدء عمله بلغت 37.3 مليار ريال (9.94 مليار دولار).
وبالرجوع لبيانات الهيئة العامة للإحصاء، تبين أن عدد السكان السعوديين بالمملكة حسب مسح السكان في عام 2018 بلغ 20.7 مليون نسمة، بينما بلغ عدد السكان المستفيدين من الدعم 12.5 مليون نسمة، أي أن نسبة المستفيدين من الدعم تصل إلى 60.3%. وهذه نسبة المرتفعة من طالبي الدعم من السكن مقبولة في دولة نامية فقيرة، لديها عجز مالي. ولكنه من غير المقبول وجود هذه النسبة من مستحقي الدعم بدولة ثرية، وتتمتع بفوائض مالية مكنتها من امتلاك واحد من أكبر الصناديق السيادية على مستوى العالم،
وثمة حسابات أخرى يمكن الإشارة إليها، فما تحصل عليه الأسرة كحد أقصى للدعم يمثل 266 دولارا في الشهر، وبفرض أن الأسرة مكونة من 5 أفراد فقط، فمعنى ذلك أن نصيب الفرد بحدود 53 دولارا فقط لا غير، في ظل سياسة تحرير أسعار للسلع والخدمات، التي بدأتها الحكومة منذ مطلع 2017.
وإذا ما اعتبرنا أن هذا المستوى من الدعم يشكل متوسط الدخل للفرد في الأسر الفقيرة بالمجتمع السعودي، فمعنى هذا أن دخل الفرد بحدود 1.7 دولار في اليوم، وهو دون المتوسط العالمي عند 1.9 دولار في اليوم، وحتى لو سلمنا بأن ما تقدمه الحكومة السعودية من دعم يضاف لدخول أخرى للأسر الفقيرة، فقد يصل متوسط دخل الفرد للضعف أي نحو 3 دولارات ونصف في اليوم، فهو معدل دون المستوى في ظل الظروف المالية المتاحة للدولة السعودية.
المفترض أن هذه الزيادة المتحققة في قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالسعودية، يصاحبها تحسن في المستوى المعيشي للأفراد، ولكن نظرًا لأن بنية الناتج المحلي الإجمالي السعودي تعتمد على الإيرادات الريعية للنفط، فكانت مجرد زيادة نقدية، لم تفضِ إلى خلق فرص عمل جديدة، أو إضافة سلع وخدمات جديدة، أو قيمة مضافة تعمل على تقدم ورفاهية المجتمع.
وبالتالي سيظل الحديث عن تنوع الاقتصاد السعودي، أو وجود خطة واستراتيجيات لتوطين الوظائف، أو برامج ورؤية 2030 بلا مردود ملموس على حياة الناس.. فمن غير المقبول في دولة تعد أكبر مصدر للنفط في العالم، ويكون بها هذا العدد من طالبي الدعم الحكومي، وبهذا المبلغ الزهيد، الذي يعادل نحو 53 دولارا شهريًا. فالمفترض أن هناك حماية اجتماعية أكثر شمولًا، وليس هذا فقط، بل برنامج تنموي حقيقي يغير من طبيعة حياة الأفراد، بحيث ينحسر عدد طالبي الدعم، بسبب مساهمتهم الحقيقية في النشاط الاقتصادي، وبالتالي تحسن مستوى دخولهم ومعيشتهم.
بلا شك أن حديث الحكومة السعودية عن عدد المستفيدين من الدعم، ومستويات الاستفادة على مستوى الأسر والأفراد، يتيح لها بسهولة معرفة خريطة الفقر، وبخاصة أن التصريحات الحكومية تظهر أن هناك قاعدة بيانات مرنة تسمح برصد التحسن أو التراجع في دخول الأفراد. ولكن لم يحدث أن عرضت جهة حكومية، أو تحدث مسؤول حكومي عن خريطة الفقر في السعودية.
إن وضع خريطة للفقر بالسعودية هو البداية الصحيحة لتحسين مستوى معيشة المهمشين في السعودية إذا توفرت الإرادة السياسية، فمن خلال هذه الخريطة سوف تحدد خصائص هؤلاء الفقراء، ومعرفة احتياجاتهم، وسد فجوة الفقر في مجالات الدخل والتعليم والصحة، ومعرفة مدى ملاءمة الآليات الملائمة لهم لتحويلهم لمجتمع إنتاجي، من خلال المشروعات متناهية الصغر أو الصغيرة.
ومن غير الممكن أن تكون خريطة الفقر غير متاحة للحكومة السعودية، أو أنها لا تملك البيانات الخاصة بهذه القضية الاجتماعية الخطيرة، ولكن ما يمنع الحكومة السعودية من الإعلان عنها، هو البعد السياسي، الذي من شأنه أن يحرج الحكومة بالسؤال عن كيف تتصرف في الثروة النفطية المتدفقة على مدار عقود بينما مواطنوها في هذا المستوى الذي يضطرهم لطلب الدعم. وثمة أمر أخر يتعلق بالجانب السياسي وهو أن الحكومة السعودية تفعل تلك المعادلة من العلاقة مع شعبها، بحيث يستمر في حالة من العوز، تجعل الأفراد يشعرون دائمًا بأنهم بحاجة للحكومة واستمرار دعمها، وبالتالي التخلي عن قيم الرقابة والمحاسبة، والتكريس لمبدأ الولاء مقابل العطاء.