اللجوء إلى الدين الحكومي هو أمر طبيعي في إدارة السياسة الاقتصادية، لكن العبرة بطريقة إدارته حتى يكون قيمة مضافة للناتج المحلي الإجمالي، وليس عبئاً على الموازنة العامة، أو مزاحمة للقطاع الخاص في الاقتراض، وفي الحالة السعودية مثلا يلاحظ أن ثمة اتجاها لاعتماد الاستدانة لتمويل الموازنة العامة، دون وجود خطة معلنة لكيفية إدارة هذه الديون حتى يكون لها مردود إيجابي على الاقتصاد.
وقد أعلن الاثنين 9 إبريل/ نيسان 2018، عن أن ما تم إدراجه وتداوله من أدوات الدين الحكومي للسعودية في السوق المحلية بلغ 54.4 مليار دولار، وهو ما يمثل نصف القيمة السوقية لسوق الأسهم، وصاحب الخطوة موافقة هيئة سوق المال السعودية على إدراج أدوات الدين الحكومي في البورصة.
وفي ظل السياسة المالية السعودية يلاحظ أن ثمة اتجاها للتوسع في الاستدانة داخليًا وخارجيًا، وهو ما يجعلنا نتوقع أن تشهد القيمة السوقية لأدوات الدين الحكومية ارتفاعات متتالية، تتساوى فيها مع القيمة السوقية للأسهم أو تتجاوزها خلال السنوات الثلاث القادمة.
وصرح فهد سيف رئيس مكتب إدارة الدين العام بالسعودية، بأن حجم إصدارت الدين العام بلغ 118.1 مليار دولار، منها محلية 69.3 مليار دولار، وعالمية 48.8 مليار دولار، ولا يزال القوس مفتوحًا لمزيد من إصدارات، حيث طرحت الحكومة صكوكًا محلية إضافية خلال الأيام الماضية بـ 5 مليارات ريال، لتصل قيمة الإصدار الأصلي الذي أعلن عنه في يناير/ كانون الثاني 2018 إلى 17.9 مليار ريال.
وحسب بيانات مكتب إدارة الدين العام، فإن نسبة الدين العام للناتج المحلي بلغت 17.3%، بنهاية 2017 مقابل 1.6% بنهاية 2014، حيث كانت قيمة الدين العام 11.7 مليار دولار، وهو ما يعكس حجم الأزمة المالية، ولجوء الحكومة السعودية للتوسع في الدين العام، رغم الإجراءات التقشفية التي تبنتها مطلع 2017.
ويتوقع في ظل المشروعات التي يعلن عن تنفيذها بالمشاركة مع جهات أجنبية، ومن بينها مشروع الطاقة الشمسية أن تؤدي إلى زيادة حجم الدين العام خلال السنوات القادمة.
لا تمكن قراءة ما يتم من سياسة توسعية تجاه الدين العام، على أنها معالجة للتضخم أو الحد من الرواج الاقتصادي، فالبيانات الرسمية توضح أن النمو الاقتصادي بالمملكة خلال 2017 كان سلبيًا بـ 0.7%، وأن هناك ارتفاعًا في قيمة التضخم وصل إلى 2.9% بنهاية فبراير/ شباط 2018.
لكن هذا التضخم مصدره ارتفاع تكاليف الإنتاج، وليس الزيادة في معدلات السيولة بالمجتمع، فما تم من ارتفاع في تكاليف الإنتاج كان نتيجة للإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة برفع أسعار بعض الخدمات العامة من مياه وكهرباء ووقود، وبالتالي معالجة التضخم في هذه الحالة ليست من خلال العمل على سحب السيولة من السوق، ولكن بخفض تكاليف الإنتاج، والبحث عن طرق إنتاجية تساهم فيها التكنولوجيا لخفض تكاليف الإنتاج.
ويلاحظ أن أسعار النفط تشهد تحسنًا خلال 2017 و2018، لكنها دون المستوى الذي يمكن أن يعيد للميزانية السعودية حالة من التوازن المالي، حيث حدد صندوق النقد الدولي وضع التوازن عند 70 دولارا للبرميل.
وانعكس التحسن في أسعار النفط على تراجع العجز الفعلي بالميزانية السعودية، حيث وصل في 2017 إلى 8.9%، مقابل 12.8% في 2016. لكن استمرار السياسة الاقتصادية في المملكة بالاعتماد على الاستدانة لتمويل عجز الموازنة أو مشروعات أخرى سيؤدي إلى عودة عجز الموازنة للارتفاع.
ولا ينبغي التعويل على تحسن سعر النفط خلال الفترة القادمة، في ظل الحرب التجارية والاقتصادية التي نشبت منطلقة من الخلاف بين أميركا والصين، حيث من المحتمل إذا ما اشتد أداء هذه الحرب أن تؤدي إلى حالة من الركود في الاقتصاد العالمي، يتبعها تراجع الطلب على النفط، وبالتالي عودة أسعار النفط للانخفاض مرة أخرى.
الانسياق خلف مؤشرات رقمية لا يجني منها الاقتصاد القومي آثارًا إيجابية دليل فشل السياسة الاقتصادية، وليس نجاحها، فكون هيئة سوق المال السعودي وافقت على إدراج أدوات الدين العام، وأن هذه الإصدرات ذات قيمة عالية، لا يعكس تحسنا في وضع الاقتصاد، فالعبرة بما تضيفه الأدوات الجديدة من فرص عمل جديدة، وسلع وخدمات تحسن من أداء الناتج المحلي الذي لا يزال يعتمد بشكل كبير على النفط.
فماذا يعني أن تتجه استثمارات الشركات والأفراد من السعوديين للاستثمار في الدين العام، وسيكون ذلك خصمًا من التوجه للاستثمار المباشر، بل سيوجد حالة من الركود بشكل أفضل، حيث سيفضل المستثمر الاستثمار السهل ومضمون العائد في أدوات الدين الحكومي.
إن البدائل المتاحة أمام صانع السياسة المالية السعودية، للبعد عن استخدام أدوات الدين الحكومي، تتمثل بشكل رئيس في إعادة النظر في الاستثمارات السعودية بالخارج، والنظر في عائد تلك الاستثمارات، ومعطيات الفرصة البديلة في المملكة، إن استثمارات السعودية في سندات الخزانة الأميركية في 2017 بلغت 52 مليار دولار، ولا تتعدى الفائدة عليها 2.5% سنويا.
وموجودات الصندوق السيادي السعودي التي تقدر بأكثر من 500 مليار دولار، تستطيع أن تسد خلل الفجوة التمويلية في الإيرادات النفطية وتغطية احتياجات السوق المحلي للخروج من حالة الركود التي تسود هناك منذ أكثر من 3 سنوات.
والملاحظ أن وصول النمو الاقتصادي لمعدلات سالبة، وضحت انعكاساته بشكل كبير من خلال المؤشرات الاجتماعية السلبية مثل ارتفاع معدل البطالة إلى 12.7% في الربع الثالث من 2017، وذلك وفق بيانات الهيئة العامة للاحصاء، كما أن عدد من تقدموا للاستفادة من حساب المواطن فاق التوقعات، حيث وصلوا إلى 11.9 مليون مواطن (ليس من بينهم وافد) أي نحو 57% من السكان.
ولا بد من تقويم دور البورصة السعودية بشكل صحيح، بعيدًا عن البعد الرقمي صعودًا وهبوطًا، والتركيز على المردود التنموي، ومن الأفضل أن تشجع السياسة الاقتصادية المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر كمحرك للنمو والرواج الاقتصادي، وليس الاستثمار غير المباشر في أدوات الدين العام، أو المضاربة على الأسهم، فالتحدي الآن هو وجود قاعدة إنتاجية داخل المملكة، تعمل في إطار استراتيجية التنوع الاقتصادي.
المراقب لأداء الاقتصاد السعودي خلال الفترة القليلة الماضية، يلاحظ أن هناك توجها شديد الغموض فيما يتعلق بأداء المال العام، وكيفية إدارته وتعظيم الاستفادة منه، فمعظم الشركات التي أعلن عنها بين المملكة وشراكات أجنبية، تعتمد بشكل كبير على القطاع الخدمي والترفيهي، وثمة استخدامات متقدمة للتكنولوجيا، دون أن يعلن عن فترة انتقالية لتأقلم الاقتصاد ليستفيد من هذه المشروعات بشكل كبير، وحتى لا يكون الرابح من هذه الشراكات هم الأجانب