في حالة التراجع الملحوظ في أداء الاقتصاد السعودي على مدار السنوات الخمس الماضية، كان المتوقع من إدارة السياسة الاقتصادية أن تعي الدرس، وهو أن تنوع الاقتصاد ومحاولة الاستغناء عن النفط لن تكون إلا بوجود نقلة علمية في بنية المجتمع، بمراحل التعليم المختلفة، حتى يتحقق للمملكة قيمة مضافة أكبر، عبر استخدام وإنتاج التكنولوجيا.
ولكن من خلال متابعة بيان الميزانية العامة للدولة السعودية خلال العامين الماضيين، نجد أن صانع السياسة المالية يسير عكس الاتجاه، ففي ميزانية 2018، كان التعليم صاحب أكبر نسبة تراجع في مخصصات الإنفاق العام مقارنة بما كان عليه في عام 2017، حيث بلغت نسبة التراجع عام 2018 نحو 15.8%.
وميزانية عام 2019، لم تحمل أخبارًا سارة لقطاع التعليم السعودي، حيث تضمن بيان الميزانية نحو 193 مليار ريال (51.4 مليار دولار) كمخصصات للإنفاق على التعليم، مقارنة بـ 207 مليار ريال مقدرة في نهاية عام 2018، أي أن الإنفاق على التعليم سيشهد تراجع بنحو 14 مليار ريال، وإذا ما كانت الحكومة السعودية قد صدرت خاطبها الإعلامي بالميزانية التريليونية، فإن حجم الإنفاق على التعليم لا يمثل إلا 17.2% من إجمالي الإنفاق العام البالغ 1106 مليار ريال (294.9 مليار دولار).
في ضوء البيانات المحدودة جدًا والتي يتضمنها بيان الميزانية السعودية لعام 2019، يتضح أن الإنفاق على التعليم لا يزال يركز على سمات الإنفاق على التعليم في الدول النامية، من خلال بندين كبيرين، وهما بناء المدارس والرواتب والأجور، وإن كان البيان لم يتضمن أي إشارة إلى مخصصات الأجور والرواتب في قيمة مستهدفات الإنفاق على التعليم.
ولعل البندين الوحيدين اللذين حظيا بالإفصاح عن قيمة الإنفاق عليهما بشكل إجمالي، هما برامج تحقيق رؤية 2030 بحجم إنفاق 4.8 مليار ريال، وبرنامج الابتعاث الخارجي بنحو 14.4 مليار ريال، ليشمل نحو 196.2 ألف مبتعث مع مرافقيهم.
ومن خلال الاطلاع على مسح التعليم والتدريب الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء في السعودية عام 2017، تبين أن عدد الدارسين بمختلف مراحل التعليم من الروضة (الحضانة) إلى طلاب الدكتوراة، يصل إلى 6.4 مليون طالب، وفي ضوء مخصصات الإنفاق على التعليم بميزانية 2019، يتبين أن متوسط نصيب الطالب بالمملكة من هذا الإنفاق في اليوم يصل إلى 83 ريال فقط لا غير.
ومن المعلومات المهمة التي تتعمد الميزانية السعودية إخفائها، ما يخص الاستثمار في التعليم، بعيدًا عن مخصصات الرواتب والأجور، والإنشاءات والبناء، كأن يتم إظهار الأموال المرصودة للبحث العلمي بالجامعات والمعاهد، وأن يتم الحديث عن عدد المشروعات البحثية التي تستهدف تطوير المجتمع السعودي في مختلف المجالات، والمخصصات المرصودة لتطوير أداء التعليم لطلاب المراحل المختلفة، أو حجم الإنفاق على تطوير وسائل التعليم وتجهيز المعامل وإتاحة مستلزماتها من مواد التشغيل والتدريب.
عادة ما يتم تقويم الإنفاق العامة بالميزانية العامة للدولة، من خلال المردود من هذا العائد، ولذلك ثمة أنواع مختلفة يتم من خلالها إعداد الميزانية، حتى يتم رصد العائد بطريقة سهلة، ومن أكثر هذه الأنواع ميزانية البرامج والأهداف.
فإن تحققت الأهداف المرجوة من الإنفاق على مستوى أي قطاع، وليكن التعليم مثلًا فيُعد الإنفاق في هذه الحالة رشيدًا، وإن كان تريليونات الريالات أو الدولارات، وإن لم تتحقق الأهداف المرجوة، يوصف الإنفاق بأنه غير رشيد، وإن كان ريال أو دولار واحد.
ومن الغرائب الواردة في بيان ميزانية 2019 في السعودية، أن مخصصات الإنفاق على التعليم تتضمن (مخصصات مبادرات برنامج تنمية القدرات البشرية الذي سيتم الإعلان عن تفاصيله لاحقًا) ص 63.
ولا يحتاج الأمر إلى تعليق!؟.. إذا كان البيان الخاص للميزانية لا يتضمن أي معلومات عن برنامج سيتم الإنفاق عليه من المال العام، فكيف ستتم الموافقة عليه من قبل الحكومة السعودية الرشيدة؟ أو مجلس الشورى، إذا كان من حقه اعتماد الميزانية؟
إن ضبابية المعلومات لا تعني سوى الاستخفاف بحق الشعب السعودي في المعرفة، وكذلك حقه في المساءلة، هل هذا البرنامج يخص الطلاب والدارسين، أو يخص أولياء الأمور، أم يخص القائمين على التعليم.
المفترض أن كافة المشروعات التي تتضمنها الميزانية، يكون البيان قد تضمن شرحًا لها، أو على الأقل يظهر البيان ملامحها الرئيسة؟ أما أن يقال سيتم الإعلان عن تفاصيله لاحقًا!! فهذا يدل على عدم جاهزية البرنامج، أو أن ثمة شبهة فساد تحيط بهذا البرنامج، من حيث المنفذين أو المستفيدين.
وعلى الرغم من أن الإنفاق على قطاع التعليم يحتل المرتبة الأولى بين القطاعات التسعة التي شملتها بنود الإنفاق العام، بنحو 193 مليار ريال، ويأتي بعده قطاع الإنفاق العسكري بقيمة 191 مليار ريال، إلا أن الواقع عكس هذه التقديرات، وهو ما تظهره بيانات الميزانية عن تقديرات 2018، حيث تزيد النفقات الخاصة بالقطاع العسكري على باقي قطاعات الإنفاق العام، وهو ما يتناسب مع المشاهد في الواقع، من تورط السعودية في حرب اليمن، وحصار قطر وما يستلزمه الأمر من الإنفاق على التسليح.
بقى أن نشير إلى أن ما تم رصده من تراجع مخصصات الإنفاق على التعليم بالسعودية، لم يتم تقديم تبرير له أو تفسير في بيان الميزانية، لا هذا العام ولا الذي قبله. وليعلم صانع السياسة التنموية في السعودية أن التعليم هو مفتاح التقدم.