شهدت الساحة العالمية الاحتفائية السنوية لمنظمة العمل الدولية في الـ 20 من فبراير/شباط الماضي، بخصوص اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، ولكن عالمنا العربي الذي تاقت شعوبه للعدالة الاجتماعية، ونادى بها عبر ثورات الربيع العربي، وقفت له الدول الداعمة للثورات المضادة -وعلى رأسها السعودية- بالمرصاد لتحول دون تحقيق حلم الإنسانية في بلداننا العربية.
ولا تتحقق العدالة الاجتماعية في مجتمع ما، إلا من خلال عقد اجتماعي سليم، يعلي من قيمة الإنسان، ويؤمن بحقه في المشاركة في صناعة واقع ومستقبل الوطن. وتبرز فكرة العقد الاجتماعي في المجتمعات الديمقراطية، حيث يتحسب لها الحاكم بشكل كبير، لوجود جهات رقابية تعمل على حفظ الحقوق والواجبات لكل من الفرد والمجتمع، وتدفع قيم الحرية والديمقراطية باستمرار لتحسين مكونات العقد الاجتماعي داخل المجتمعات.
وفي المجتمعات العربية، ومن بينها المجتمع السعودي، نجد أن العقد الاجتماعي تمت صياغته من طرف واحد، وهو السلطة، حيث لا ديمقراطية ولا حرية، ولا رقابة ولا محاسبة. وفي ظل التجربة السلبية بالسعودية عن فكرة العقد الاجتماعي، كان مفاد هذه التجربة يتلخص في أن تؤمن الدولة للأفراد سبل المعيشة اقتصاديًا وكذلك الأمن، نظير أن يتنازل الناس عن المشاركة في اتخاذ القرار والرقابة والمحاسبة.
وظلت هذه القاعدة الحاكمة للعقد الاجتماعي في السعودية سائدة، بل وتعمل السلطة على ترسيخها بشكل كبير لدى المجتمع، حتى إن بعض العلماء الشرعيين وطلاب العلم شاركوا في هذه الجريمة، التي تنتقص من حقوق المواطنة في المجتمع السعودي، حيث أشاع هؤلاء العلماء وطلابهم مقولة “لنا العلم ولهم الحكم”!
لا شك في أن السعودية، حتى عهد الملك عبدالله، كانت حريصة على بقاء هذا العقد الاجتماعي المختل، والذي يكرس لغياب العدالة الاجتماعية، وما تعكسه من المساواة في الحصول على الفرص أيًا كانت: اقتصادية، أو اجتماعية، أو سياسية، أو ثقافية..إلخ. والتمكين من ذلك على المدى الطويل، فلا يعرف المجتمع السعودي مجرد الحديث عن الحق في عدالة توزيع الثروة، أو تولي الوظائف القيادية، أو المحاسبة على الثروات المتراكمة من عوائد النفط، وكيف تم التصرف فيها، سابقًا أو حاليًا.
ومع مجيء الملك سلمان لتولي السلطة مطلع العام 2015، وبروز ابنه محمد كولي للعهد، شهدت المملكة تحولات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، فتم فرض ضرائب جديدة على المواطنين في المملكة لأول مرة -الضريبة الانتقائية، وضريبة القيمة المضافة-، وتم تحريك أسعار العديد من السلع والخدمات، ما أخل بالعقد الاجتماعي الذي ضمنته عهود ما قبل ابن سلمان، والذي يضمن الأمن والمعيشة الاقتصادية لأفراد المملكة.
وحسب أرقام قاعدة بيانات البنك الدولي، فإن نصيب الفرد من الدخل القومي في السعودية تراجع من 25.5 ألف دولار في العام 2014 إلى 20 ألف دولار في 2017. ولا شك في أن هناك تأثيرًا لتراجع أسعار النفط في السوق الدولية على متوسط دخل الفرد من الدخل القومي خلال هذه الفترة، ولكن الأجواء الاقتصادية التي شهدتها المملكة من كساد، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، وتوسع الحكومة في الاقتراض، ساعد أيضًا في هذه الأثار السلبية على دخول الأفراد.
وقد لا يتوقع تحسن دخول الأفراد بالسعودية خلال المرحلة المقبلة، في ظل سيناريو تحسن أسعار النفط الدولية، فما أعلن عنه من مشروعات تخص رؤية 2030، وغيرها من التوجهات الخارجية ذات الطابع الاقتصادي، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي كفيلة بحرمان المواطن السعودي من الاستفادة من أي وفورات متوقعة.
كما أن المشروعات الكبرى التي طرحت منذ سيطرة ولي العهد على مقومات القرارات الاقتصادية والمؤسسات العامة، لم تحظ بمشاركة مجتمعية، ولا العرض على مجلس تشريعي، ولم تقدم من خلال دراسات جدوى، فالمبالغ التي أعلن عنها كتكاليف لهذه المشروعات من الضخامة، بحيث لا يكون المسؤول عنها شخص واحد، هو المسؤول عن التفكير وتوقيع الاتفاقيات والمشرف على التنفيذ.
ولم تنجح الحكومة السعودية مع عهد سلمان وولي عهده محمد في توفير الأمن للأفراد بالمملكة، على الرغم من تزايد الإنفاق على الدفاع والتسليح، حيث احتلت السعودية المرتبة الثالثة على مستوى العالم في مشتريات السلاح، فقد وصلت تهديدات الحوثيين لجزء كبير من الأراضي السعودية، وبخاصة الحدود المتاخمة لليمن، وحتى قصور الأمراء في بعض الأماكن لم تسلم من تهديدات الحوثيين.
إن مبدأ العطاء مقابل الولاء، الذي طبق خلال الفترة الماضية من قبل الحكومة السعودية تجاه مواطنيها، قد لا يصلح خلال الفترة المقبلة، بسبب تراجع الأوضاع المالية للحكومة حاليًا، وبالتالي لابد من تبني استراتيجية أخرى تواكب ما تعيشه الشعوب من حقوق اقتصادية واجتماعية، تسمح للمواطن السعودي بالمشاركة في اتخاذ القرار، وكذلك الرقابة والمحاسبة، على الثروة والسلطة.