من المسلمات الاقتصادية أنه كلما شهدت المؤشرات الاقتصادية الكلية في دول ما تحسنًا ملحوظًا، كلما عاد ذلك على المواطن والمجتمع بالآثار الإيجابية، ولنطبق ذلك على السعودية حيث أعلنت الهيئة العامة للإحصاء تحقيق معدل نمو إيجابي في الربع الأول من عام 2018، كما تحسنت أسعار النفط لتتجاوز المعدلات المرصودة من قبل صندوق النقد الدولي لتحقيق التوازن في الميزانية، وهو سعر 70 دولارا للبرميل.
كما تبنت السلطات حملات مستمرة لمواجهة العمالة غير الشرعية، وتوافق ذلك مع الأوضاع الاقتصادية المتراجعة للقطاع الخاص، ما أدى إلى مغادرة نحو نصف مليون عامل البلاد.
والمؤشرات السابقة كلها تدفع، لواقع اقتصادي إيجابي فيما يتعلق بحصول الأفراد على فرصة عمل، لكن إحصاءات هيئة الإحصاء، كانت صادمة فيما يتعلق بنسبة البطالة بين السعوديين خلال الربع الأول من 2018، حيث بلغت 12.9%، بارتفاع 0.1% عن الربع الرابع من 2017.
والمنطق يقول إن أقل الآثار الإيجابية للتحسن المتحقق في الاقتصاد السعودي، أن تبقى معدلات البطالة كما هي، إن لم تنخفض، لكننا أمام مفارقات اقتصاد يفتقد لمقومات القوة، ولا يزال يعتمد على النفط، فارتفاع نسبة البطالة أتى في ظل تأكيد هيئة الإحصاء أن النمو المتحقق في الربع الأول من 2018، أتى بقيادة الاقتصاد غير النفطي، وهو ما يعني مزيدا من فرص العمل، خاصة أنه أتى بعد انكماش عانى منه الاقتصاد طوال 2017.
الاقتصاد الذي يركز على الزيادات الرقمية والكمية، دون أن يأخذ في الاعتبار حسن توظيف الموارد البشرية، لا يؤدي إلى إيجاد مشروع تنموي ناجح، فتجربة جنوب شرق آسيا، وغيرها من التجارب التنموية الناجحة، اعتمدت على نموذج للتنمية يركز في البداية على المشروعات كثيفة استخدام العمالة، حتى تقلل من رصيد البطالة القائمة، وتستوعب أكبر قدر من الداخلين الجدد لسوق العمل.
ثم انتقلت تلك الاقتصادات إلى صور متدرجة من استخدام التكنولوجيا، تعتمد على العمالة المدربة، وذات مستويات مرتفعة من التعليم، مما انعكس بشكل إيجابي في ارتفاع قيمة الناتج المحلي الإجمالي لتلك البلدان، من خلال مساهمة القيمة المضافة من العمليات الإنتاجية والخدمية، حتى إن بعض هذه التجارب أستطاع استيعاب جميع العمالة المحلية ولجأ لاستقدام عمالة من دول الجوار، كما فعلت ماليزيا.
لكن على ما يبدو فإن الوضع في الاقتصاد السعودي، لا يزال يفتقد لوجود ترابط بين مكونات سياساته، ففي الوقت الذي يعلن فيه عن تحسن إيرادات الدولة، وتحول معدل النمو من سلبي إلى إيجابي، لا يتواكب هذا مع استيعاب الداخلين الجدد، أو تقليل الرصيد القائم من العاطلين.
الأمر يستلزم إعادة النظر من صانع السياسة الاقتصادية، ولا يمر عليه مرور الكرام، كما كان من قبل، إن كانت هناك إرادة حقيقية للتنمية.
فبلا شك أن تحقيق هذه المفارقة مرجعه عدة أمور، على رأسها أن العمالة السعودية مازالت تتمسك بموروثها القديم من ثقافة العمل السلبية تجاه العمل بالقطاع الخاص، أو في بعض المهن والحرف، أو أن مؤسسات التعليم مازالت على ما هي عليه من حالة غياب عن متطلبات سوق العمل، وأن المؤسسات المعنية بالتدريب وإعادة التأهيل لم تقم بعملها بعد.
وثمة أمر مهم، لا يغيب عن المتابع للاقتصاد السعودي، وهو أن العمالة الوافدة هي عماد النشاط الاقتصادي، فعدد المشتغلين يبلغ نحو 12 مليون عامل منهم نحو 10 ملايين من الوافدين، وبالتالي فالتحسن في معدلات النمو أتى من خلال مستويات العمالة الحالية، وليس بالضرورة نتيجة إضافة قوة عاملة جديدة.
ثمة مجموعة من الأسباب يمكن أن تقرأ فيها مفارقات أداء الاقتصاد السعودي، فيما يتعلق بزيادة معدلات البطالة في ظل الإعلان عن تحسن مؤشرات الاقتصاد الكلي، ومنها: أن التحسن في معدل النمو، لم يشمل قطاعات وأنشطة مولدة لفرص العمل، وإن كانت في القطاعات غير النفطية، فقد تكون الأوضاع الاقتصادية التي مرت بها المملكة خلال الفترة الماضية أدت إلى تفعيل الإمكانيات المتاحة بالمؤسسات العامة والخاصة، بشكل يزيد من إنتاجيتها، دون الحاجة لمزيد من فرص العمل.
وارتفاع البطالة في ظل الحديث عن توطين الوظائف بالسعودية، يعكس حالة من عدم جدية هذه الاستراتيجة من حيث التفعيل، أو الطرح في حد ذاته، نظرًا لطبيعة التركيبة السكانية بالمملكة، حيث لا يؤثر توظيف جميع العاطلين من السعوديين، والبالغ عددهم نحو 600 ألف فرد، بأي شي يمكن أن يجعل البلاد تستغني عن العمالة الوافدة.
وبالتالي سيظل الاقتصاد السعودي ولسنوات يعتمد بشكل رئيس على العمالة الوافدة، رغم ما يعلن من استراتيجيات التوطين، أو بعض الإجرءات الجديدة من قصر مجالات معينة من الأنشطة الاقتصادية على المواطنين، أو السماح للسيدات بقيادة السيارات مؤخرًا.
أو أن تكون إيرادات التحسن الأخير في أسعار النفط، وجهت لخارج المملكة مثلا في فرص استثمار خارجية، أو تم استيعابها في مستنقع الحرب اليمنية، وشراء السلاح، وتمويل باقي بنود الصرف على الحرب هناك، من رواتب ومكافآت للمشاركين في هذه الحرب من دول تلتزم السعودية بدفع رواتب جنودها، أو الانفاق داخل اليمن سواء على صعيد دعم حكومة عبد ربه منصور هادي، أو مساندة بعض القبائل، أو الدخول في التزامات إقليمية ودولية لشراء تلك القوة للوقوف بجانب التحالف الخليجي، والسكوت عن الممارسات التي تدين التحالف على الصعيد الإنساني من قصف لبعض المناطق التي تكتظ بالمدنيين، وتعرضهم لحالات قتل أو إصابات.
الإجراءات التقشفية التي تم تطبيقها في السعودية منذ العام 2015، يبدو أنها باقية، بل وقد تشهد المزيد من الإجراءات، ومراحل تخفيض الدعم، رغم التحسن في أسعار النفط وزيادة السعودية الإنتاج بعد فرض العقوبات الأميركية على إيران.
لم نلاحظ أن السلطات السعودية بشرت مواطنيها بوقف أو الحد من التداعيات السلبية للإجراءات التقشفية، بل ما تناولته وسائل الإعلام مؤخرًا، يعكس حالة من زيادة الأعباء المعيشية على المواطن، حيث شهدت فواتير استهلاك الكهرباء بالمنازل زيادة لضعفين أو ثلاثة اضعاف خلال الشهرين الماضيين.
وبلا شك سوف نستبعد سوء الظن في تقدير الأمر، فيما يتعلق بمفارقات الأداء الاقتصادي للسعودية، من حيث القول بأن هناك عملية "تلوين" للإحصاءات لا تعبر عن الواقع الحقيقي للأداء الاقتصادي، وأن ما نشر عن معدلات النمو غير حقيقي.
وسوف يساعدنا على استبعاد سوء الظن أداء الاقتصاد خلال المرحلة المقبلة، ووجود حالة من الاتساق بين بيانات مؤشراته، وأن يجد المواطن أثرًا للإداء الإيجابي المعلن من قبل الحكومة، لكن إذا تبين غير ذلك فستستمر المفارقات، ويتأكد تلوين الاحصاءات حول مؤشرات الاقتصاد الكلي.
وختامًا، سيؤدي استمرار اتجاه البطالة في الارتفاع، إلى زيادة مخصصات صندوق حساب المواطن، الذي يعد بمثابة حماية اجتماعية لغير القادرين السعوديين.