في ظل أسعار متوقعة قرب سقف 90 دولارا لبرميل النفط سوف تشهد فاتورة الواردات السلعية العربية ارتفاعًا ملحوظًا.
قد تعمل الدول الكبرى على زيادة مساحة المصالح المتعارضة ليفشل الاتفاق وتعود أوبك والدول المنتجة خارجها لعدم الالتزام بالكميات المناسبة للحفاظ على العرض.
فاقم سيناريوهات استمرار ارتفاع الأسعار تقديرات غولدمان ساكس التي توقعت وصول الأسعار إلى 90 دولارا في 2022 بسبب التفاؤل بخصوص زيادة الطلب.
* * *
في منتصف عام 2014، بدأت أزمة انهيار أسعار النفط في السوق الدولية، وبنهاية عام 2019، كان البعض يتوقع تحسنا في الأسعار بما لا يتجاوز سقف 70 دولارا للبرميل، كحد أقصى، ولكن أتت أزمة كورونا، وما تبعها من حرب أسعار في سوق النفط في نهاية مارس/ آذار 2020، لتستمر أزمة تدني الأسعار.
إلا أن النصف الثاني من عام 2021 شهد تحسنًا متدرجًا في الأسواق، ليودع سقف الـ60 دولارا، وبعدها 65 دولارا، لنجد الأسعار تتجاوز 70 دولارا دون وجود مشكلات، بسبب سيطرة "أوبك+" على قراراتها، والنجاح في الالتزام بقرارات تتعلق بتحديد سقف الإنتاج.
لكن الأسعار شهدت يوم الثلاثاء، 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أداء مختلفًا، حيث تجاوز السقف 80 دولارا للبرميل بالصفقات الآجلة.
وما زاد من سيناريوهات استمرار ارتفاع الأسعار، تقديرات بنك غولدمان ساكس، الذي توقع أن تصل الأسعار إلى 90 دولارا للبرميل في عام 2022، بسبب حالة التفاؤل التي يراها البنك بخصوص ارتفاع الطلب على النفط، لتعود إلى ما كانت عليه بنهاية 2019 وقبل جائحة كورونا، فهل ستقول الأسواق "لقد انتهى عصر النفط الرخيص".
أداء سوق النفط يعتمد على قاعدة العرض والطلب في الوضع الطبيعي، لكن حسابات الكبار عادة ما تؤدي بتلك القاعدة إلى نتائج أخرى، إذ تتعارض القاعدة مع مصالح الدول الكبرى، المستهلكة للنفط، كما هو الحال بالنسبة لأميركا والصين، والدول الصناعية الكبرى الأخرى.
وقد تكون أميركا في الحقيقة هي اللاعب الأكبر وصانع السوق في مجال النفط، فإذا رغبت أن توقف الموجة التي تشهد فيها سوق النفط تحسنًا كبيرًا للأسعار، فقد تلجأ لتصدير بيانات تفيد بامتلاء مخزوناتها الاستراتيجية، أو تعلن أن حفارات النفط الصخري بدأت في العمل، وهذا من شأنه أن يهبط بأسعار النفط.
بلا شك هناك مصالح لشركات النفط الأميركية، خاصة أنها تعمل خارج الأراضي الأميركية، في مجالات مختلفة في سوق النفط، وتدفعها لهذا السلوك حسابات التضخم في السوق المحلي، خاصة أنها تبحث عن إنعاش الاقتصاد، وعدم فقدان فرص العمل.
ومن ناحية أخرى، هناك موازين لا بد من مراعاتها تخص دول الإنتاج النفطي، خاصة تلك التي بينها وبين أميركا تنافس في مجالات مختلفة، وعلى رأسها روسيا، ولذلك لا تريد أميركا أن يؤدي تحسن أسعار النفط إلى إنعاش الاقتصاد الروسي، وكذلك باقي الدول المنتجة للنفط في منطقة الشرق الاوسط، فأميركا ترى أن هذه الأموال التي يدرها النفط على المنطقة لا بد أن تكون في نطاق معين يساعد على تنفيذ مخططاتها ومراعاة مصالحها.
أما الصين وباقي الدول الصناعية الأخرى، فليس من مصلحتها أن ترتفع أسعار النفط حتى يمكنها المنافسة في سوق الصادرات، فارتفاع الأسعار سوف ينعكس على رفع أسعار السلع التصديرية.
ومن المعلوم أن اقتصاد الصين، وغيرها من الدول الصناعية الكبرى، أصبح يعتمد بشكل رئيس على الصناعات التصديرية، وتراجع الصادرات بسبب رفع الكلفة، سوف يؤدي إلى تقليل الإنتاج، وبالتالي فقدان فرص عمل، وتراجع في الكفاءة الائتمانية للصناعات التصديرية.
باستثناء 9 دول، تعد معظم الدول العربية مستوردة للنفط، ومما يزيد من مشكلة الدول العربية المستوردة للنفط، أنها دول نامية، وتعتمد على الواردات بشكل كبير، ولذا ستكون فاتورة النفط عليها مضاعفة. فإلى جانب الواردات السلعية لتلك الدول والتي يغلب عليها العدد والآلات ومستلزمات الإنتاج، ستزيد الفاتورة بسبب زيادة أسعار النفط، ومن ناحية أخرى نجد أن فاتورة استيراد النفط في حد ذاتها ستكون عبئا على ميزان المدفوعات.
ولا يغيب عنا أن العجز المالي للدول العربية المستوردة للنفط أفقدها ميزة تخزين النفط أو الغاز الطبيعي خلال السنوات الثماني الماضية، التي كانت أسعار النفط فيها منخفضة، وبالتالي ستكون الفاتورة الجديدة للنفط، لا محالة، وفق الأسعار والتعاقدات الجديدة.
ووفق بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2020، فإن الواردات السلعية لكافة الدول العربية بلغت في عام 2019 نحو 1073 مليار دولار، أي ما يزيد عن التريليون دولار، وفي ظل الأسعار المتوقعة بشأن سقف 90 دولارا لبرميل النفط، سوف تشهد فاتورة الواردات السلعية العربية ارتفاعًا ملحوظًا.
وتتنظر اقتصاديات هذه الدول، في حال تحقيق سيناريو زيادة أسعار النفط، أن تشهد موجات جديدة للتضخم، بسبب زيادة أسعار النفط، وبخاصة أن غالبية الدول العربية المستوردة للنفط تخلصت بشكل كبير من دعم الوقود والطاقة بشكل عام.
المتابع لاقتصاديات الخليج، منذ عام 2015، يلاحظ أن ثمة تأثيرات سلبية وقعت على ميزانيات تلك الدول بسبب انخفاض أسعار النفط بشكل كبير، حيث تحولت حالة الفائض المالي لميزانيات تلك الدول، التي تحققت خلال الفترة من 2003 - 2014، إلى عجز بالميزانيات، وبدأت موجة جديدة من الاستدانة، المحلية والخارجية، لتشهد الديون الخليجية ارتفاعات ملحوظة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أدى الواقع الجديد، في ظل انخفاض أسعار النفط على مدار نحو ثمانية أعوام، إلى لجوء بعض دول الخليج للسحب من أرصدة الصناديق السيادية، وهو ما لمسناه في حالات الإمارات والسعودية والكويت.
وكانت تقديرات صندوق النقد الدولي قد وضعت توقعاتها لتحقيق سعر التعادل بميزانيات دول الخليج بين 45 دولارا للبرميل في قطر، ونحو 95 دولارا فأكثر لكل من الكويت والبحرين، ونحو 75 دولارا للسعودية وسلطنة عمان، والإمارات عند سعر 65 دولارا للبرميل.
وفي ضوء التوقعات الجديدة، إذا تحققت، عند سعر 90 دولارا للبرميل، سوف تخف الأعباء بشكل كبير عن ميزانيات دول الخليج، بل ستكون بعض الدول في وضع فائض أفضل، مثل قطر والسعودية والإمارات وسلطنة عمان، بينما الكويت والبحرين ستحتاجان لبعض الوقت لتجاوز أوضاع العجز بالميزانيات العامة لهما.
هناك عامل مهم في تحقيق هذه الزيادة في سوق النفط الدولية، وهو سلوك المنتجين، وبخاصة ما يتعلق باتفاقيات "أوبك+" بحيث تحافظ على العرض بكميات تحقق لها مزايا تزيد من مكاسبها، لكن إذا انهارت هذه الاتفاقيات، وزادت الكميات المعروضة بالسوق عن معدلات الطلب، فسوف يستغل المستهلكون هذا الأمر، ويعملون على عودة الأسعار إلى ما كانت عليه عند سقف 70 دولارا للبرميل.
المصالح متعارضة بين دول منتجة للنفط داخل اتفاق "أوبك+"، ولذلك قد تعمل الدول الكبرى على زيادة مساحة المصالح المتعارضة، بحيث يفشل هذا الاتفاق، وتعود أوبك، والدول المنتجة خارجة، إلى عدم الالتزام بالكميات المناسبة للحفاظ على العرض.
في يونيو/ حزيران 2021، اعترضت الإمارات على استمرار الاتفاق، وكذلك إذا ما توصلت إيران إلى اتفاق حول برنامجها النووي مع أميركا، فسوف تسعى لتكون حصتها الإنتاجية قادرة على تعويضها عن فترة العقوبات، والتي قلصت حصتها التصديرية لنحو 300 ألف برميل يوميًا فقط، فلعبة تعارض مصالح الدول المنتجة للنفط تجيدها الدول الكبرى المستهلكة للنفط.