تعد قضية الطاقة من الملفات الإستراتيجية المهمة في مصر، وذلك في ضوء احتياجاتها للاستهلاك المحلي، الذي يتزايد سنويًّا بنحو 3%، وفي خضم التوجهات الجديدة التي ترمي لأن تكون مصر مركزًا إقليميًّا للطاقة، خاصة بعد تشغيل حقل "ظهر" بكامل طاقته في منطقة مياه شرق البحر المتوسط، وتوقيع اتفاق بين مصر والكيان الصهيوني بقيمة 15 مليار دولار لمدة عشر سنوات، تستورد بموجبه مصر الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، من أجل إسالته وتصديره للسوق الخارجي.
منذ النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين تحولت مصر لدولة مصدرة للنفط، وإن كان بكميات صغيرة. وتمتلك مصر خمس شركات قابضة لإدارة ثروتها من النفط والغاز الطبيعي والثروة المعدنية، وعبر هذه الشركات الخمس هناك شركات تابعة، منها ما هو مملوك للقطاع العام بنحو 12 شركة، فضلا عن 41 شركة مشتركة تقريبًا تعمل في مجال النفط والغاز.
لكن، رغم هذا الكم الكبير من الشركات المصرية المملوكة للدولة، أو التي يشارك فيها القطاع الخاص؛ فإن الشركات الأجنبية تعد المسيطرة على ثروة مصر من النفط والغاز الطبيعي، فمعظم الاكتشافات تتم عن طريق تعاقدات مع هذه الشركات.
كما أن الحقول الكبرى تم اكتشافها والدفع بالاستثمارات اللازمة للإنتاج بها من خلال الشركات الأجنبية، كما هي الحال في حقل ظهر في مياه البحر المتوسط، من قبل شركة "إيني" الإيطالية، أو حقل غرب الدلتا الذي تسيطر عليه الشركة البريطانية للغاز.
حسب بيانات التقرير السنوي للبنك المركزي المصري عن الاقتصاد المصري؛ مثلت تدفقات المستثمرين الأجانب في قطاع النفط 46.8 مليار دولار خلال الفترة بين2012-2013 و2017-2018، وبمتوسط سنوي 7.8 مليارات دولار.
والملاحظ من تحليل بيانات تدفقات الاستثمار الأجنبي لمصر خلال الفترة نفسها، أن الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط تمثل نسبة تتراوح بين 53 و70%، من إجمالي تدفقات الاستثمارات الأجنبية، وهو ما يعني أن القطاع يمثل بؤرة اهتمام الأجانب لاستثماراتهم بمصر، وأنه يدر عليهم أرباحا تدفع لهذا التركيز.
وعادة تحتكر الشركات الأجنبية عمليات البحث والتنقيب والإنتاج في مصر على مدار عقود ماضية، خاصة الشركة البريطانية للنفط، وشركة إيني الإيطالية، هذا بجوار شركات من إسبانيا، وماليزيا، وفرنسا، وأميركا.
رغم وجود النفط والغاز الطبيعي في مصر منذ منتصف السبعينيات، وكذلك وجود النفط والغاز بكميات كبيرة في دول الجوار لمصر، مثل ليبيا، أو في باقي الدول العربية بالخليج، لم تتجه مصر للاستثمار في مجال النفط والغاز، خاصة نشاطي الاستكشاف والإنتاج، مع أنها تمتلك الموارد البشرية اللازمة لذلك، والإمكانات العلمية عبر الجامعات.
واقتصرت الاستثمارات المصرية في قطاع النفط على ما يتعلق بتكرير النفط أو نقل المنتجات النفطية، أما نشاط إسالة الغاز الطبيعي فاكتفت فيه مصر بمشاركة شركات أجنبية بحصص صغيرة، لتفوز هذه الشركات في ما بعد باحتكار هذا النشاط.
ففي مصر معملان كبيران لإسالة الغاز؛ الأول في مدينة إدكو، وحصة ملكية مصر فيه 24% فقط، في حين تمتلك فيه شركة بريطانية حصة 35.1%، وشركة بتروناس الماليزية نسبة 35.1%، وشركة غاز فرنسا نسبة 5%.
أما المعمل الموجود في دمياط، فقد سيطرت عليه شركة إيني الإيطالية بنسبة ملكية 40%، وشركة إسبانية بحصة مماثلة 40%، وتمتلك مصر حصة 20% فقط.
وبذلك فعائد نشاط إسالة الغاز الطبيعي في مصر يذهب بشكل كبير للأجانب، وتكتفي مصر بحصص زهيدة.
هذا الأمر يفرغ اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، التي أبرمت في 2018، بقيمة 15 مليار دولار لمدة عشر سنوات، وذلك لسببين: الأول أن الشركة الناقلة والمالكة لخط الأنابيب (شركة غاز شرق المتوسط) ملكية مشتركة بين مصريين وإسرائيليين، وبالتالي فهم شركاء في عائد النقل وبيع الغاز الطبيعي.
وعندما يصل الغاز لإسالته في مصر، تذهب الحصة الكبرى من عائد الإسالة لصالح الشركات البريطانية والإيطالية والإسبانية والماليزية والفرنسية، والنزر اليسير تحصل عليه مصر.
وتكملة للعائد المتواضع الذي تحصل عليه مصر من نشاط النفط؛ نجد أن الإحصاءات الخاصة بصادرات النفط تتضمن حصة الشريك الأجنبي، التي تتراوح بين 35 و40%.
وبالتالي؛ فالحسابات الدقيقة تفرض استبعاد حصة الأجانب من الصادرات النفطية بمصر، حتى نكون على بينة من العوائد الصحيحة لصادرات النفط المصرية.
الجدير بالذكر أن إعداد بيانات الصادرات بهذه الطريقة يأتي إعمالاً لقواعد صندوق النقد الدولي، الذي يعتبر أن خروج السلع من بلد ما يصنف على أنها ضمن صادراته.
وأعلنت مصر منتصف 2019 تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز الطبيعي، وذلك بعد أن دخل حقل "ظهر" بكامل طاقته الإنتاجية حيز التنفيذ، بواقع 2.7 مليار قدم مكعبة يوميًّا.
لكن علينا أن نبين طبيعة الملكية في هذا الحقل، وكذلك في حقل "غرب الدلتا" الذي وقع عقده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مؤتمر شرم الشيخ في مارس/آذار 2015، وكان مقررًا أن يدخل الحقل مجال الإنتاج عام 2017.
ويضم حقل غرب الدلتا خمسة حقول، وكان محل خلاف بين حكومات مصر المتعاقبة إبان عهد مبارك والشركة البريطانية، لكن السيسي أنهى هذا الخلاف بتوقيعه اتفاقية جديدة، بموجبها تضخ الشركة البريطانية 12 مليار دولار كاستثمارات في الحقل، نظير أن تكون لها ملكية الحقل بالكامل، كذلك بشرط أن تورد الشركة البريطانية الإنتاج للسوق المحلي لمصر بسعر ثلاثة إلى أربعة دولارات للمليون وحدة حرارية، ولا تلتزم الشركة البريطانية بأي شيء آخر مع مصر سوى الرسوم والضرائب.
أما حقل ظهر، فكان غنيمة لشركة إيني الإيطالية، التي تحصل على 40% من عوائد الحقل لاسترداد تكاليف الاستثمار، بالإضافة إلى حصة 35% من عوائد الحقل. على أن تكون حصة الشركة 35% فقط من عوائد الحقل بعد استرداد تكاليف الاستثمار والمقدرة بمليارات الدولارات.
لكن الشركة الإيطالية بعد دخولها المشروع، باعت جزءا من حصتها إلى شركات أجنبية أخرى، واكتفت مصر بالحصول على عمولة نقل الملكية.
ولا يجب أن ننظر لحصة الجانب الإيطالي بالقيمة الاسمية التي أبرم بها عقده مع مصر؛ فطبيعة هذه الصفقات أن يعاد تقويم حصة الشريك بناء على القيمة السوقية، والتي زادت بلا شك بعد التأكد من استخراج الغاز وبدء الإنتاج، ولنا أن نتخيل أن مصر بعيدة عن هذه الأرباح، نظير حصولها على مجرد العمولة.
ختامًا، حينما وصف الاقتصاديون تبديد الموارد بأنه من سمات الدول المتخلفة، كانوا محقين، لأن إدارة التنمية لا تعني إطلاق شعارات جوفاء مثل أن تصبح مصر مركزًا إقليميًّا للطاقة، ولكن العبرة بالقيمة المضافة التي كان يجب أن تعظمها حكومات السيسي تجاه ثروة مصر من النفط والغاز، وليس توزيعها لصالح الدول الأجنبية، أو تسويق مصالح الكيان الصهيوني، من أجل دعم نظام السيسي إقليميًّا ودوليًّا.