ما زالت مصر تدفع ثمنًا غاليًا للسياسة النقدية الخاطئة، التي تم اتباعها عقب ثورة 25 يناير، فقد اتجه البنك المركزي المصري لتبني سياسة حماية سعر العملة الوطنية تجاه العملات الأجنبية، مما مكن رؤوس الأموال الأجنبية غير المباشرة من الخروج بلا تكلفة تذكر، فحسب بيانات البنك المركزي خرجت نحو ثمانية مليارات دولار من مصر عقب ثورة 25 يناير، وهي تلك الأموال التي كانت تستثمر في سندات الخزانة الحكومية، ومختلف منتجات البورصة المصرية.
في حين أن القواعد السليمة كانت تقتضي أن يترك سعر العملة المحلية عقب الثورة لآليات العرض والطلب لتقوم بسعرها الحقيقي، مما يجبر الأجانب على البقاء في السوق المصرية، وعدم خروج كل هذه الأموال دفعة واحدة، لكي لا تشكل عبئا على احتياطي البلاد من النقد الأجنبي.
وكانت نتيجة إدارة المجلس العسكري للفترة الانتقالية الأولى على مدار عام ونصف، أن تم استنزاف 20 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، نتيجة لخروج الأجانب وتغطية الواردات التي قفزت عشرة مليارات دولار على مدار عامي 2011/2010 و2012/2011، وخروج أموال بطرق غير شرعية من مصر إلى مختلف بلاد العالم.
مع بداية منتصف عام 2012، بدأ التوجه نحو تبني سياسة جديدة لعودة جدارة احتياطي النقد الأجنبي لمصر، ولكنها للأسف كانت آلية هشة؛ إذ تعتمد على ودائع لدول خليجية لدى البنك المركزي المصري، بعضها لثلاث سنوات، وبعضها لخمس سنوات، تجدد لفترات أخرى، وشاركت في هذه الآلية دول أخرى غير عربية مثل تركيا. ومع ذلك ظل حجم احتياطي النقد الأجنبي لمصر يتراوح بين 14.5 و15 مليار دولار، حتى نهاية العام المالي 2013/2012.
وبعد الانقلاب العسكري في مصر تم الاعتماد على نفس الآلية، لعدة أسباب منها: استمرار تراجع موارد مصر الذاتية من النقد الأجنبي، وبخاصة من قطاع السياحة، الذي لا يزال يعاني حالة ركود قاتلة، كما شكلت تكلفة استيراد النفط عبئا أكبر، إذ تحولت مصر لمستورد صافٍ للنفط، ولم يعد النفط، ضمن المصادر الرئيسة لتدفقات النقد الأجنبي لمصر، لما يعكسه العجز في الميزان البترولي من أداء سلبي.
ويضاف إلى ذلك ما قُدم لمصر من دعم من دول خليجية، كان جزء لا يستهان به منها عبارة عن ودائع للبنك المركزي المصري لدعم احتياطي النقد الأجنبي، وقدر الدعم بنحو خمسة مليارات دولار، مما أدى إلى وصول الاحتياطي لنحو 18 مليار دولار، وكانت هناك حالة من التفاؤل لدى رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي بتجاوز الاحتياطي لحاجز العشرين مليار دولار، ولكن الواقع كذب هذا التوقع، وبدأ الاحتياطي لعدة شهور يشهد نوعًا من الاستقرار، ثم بدأ في التراجع، ليشكل في نهاية يوليو/تموز 2014 نحو 16.7 مليار دولار.
الوديعة القطرية شكلت نوعًا من الضغط على إدارة السياسة النقدية في مصر، لأن هذه الودائع قدمت من خلال بنك تجاري قطري، وليس من قبل حكومة قطر، مما منع الحكومة المصرية من الاستفادة من إمكانية المفاوضة على سداد هذا الوديعة في إطار اتفاقية نادي باريس، بما يسمح لها بتحويلها إلى ديون وسدادها على سنوات تمتد لفترات طويلة.
ومع نهاية عام 2013 سددت مصر جزءا من الوديعة القطرية بنحو ملياري دولار، ولكن من خلال مصادر غير ذاتية، وهي جزء من الوديعة الكويتية التي اعتبرت أيضًا وديعة في البنك المركزي المصري، لكن مع حلول نوفمبر/تشرين الثاني 2014، ستجد مصر أنها مطالبة بسداد مبلغ ثلاثة مليارات دولار، عبارة عن الجزء المتبقي من الوديعة القطرية، وذلك حسب تصريحات هشام رامز محافظ البنك المركزي المصري.
الحلول التي تحاول مصر أن تلجأ إليها تظهر وجود عجز حقيقي في الموارد الذاتية لتدفقات النقد الأجنبي، إذ أعلنت مصر غير مرة عبر تصريحات وزرائها، بأنها تعتزم طرح سندات دولية ومحلية بالعملة الصعبة، وإن كان البعض تحدث عن ضمانة إماراتية لهذه السندات، لتفادي التكلفة العالية في سوق الائتمان، نظراً لتراجع التصنيف الائتماني لمصر لدى مؤسسات التصنيف الدولية.
كما صرح وزير البترول المصري شريف إسماعيل مطلع أغسطس/آب 2014، بأن هناك اتجاها باقتراض 1.5 مليار دولار من البنوك الخارجية لسداد جزء من مستحقات شركات النفط الأجنبية، وعلل الاتجاه للاقتراض من الخارج بحجة عدم الضغط على احتياطي النقد الأجنبي.
إذن هناك مشكلة بالفعل تحتاج إلى حل جذري، أو ما يضمن بتحول الودائع الخليجية الموجودة حاليًا للسعودية والإمارات والكويت إلى قروض طويلة الأجل. مما يمكن البنك المركزي المصري من التصرف بعيدًا عن ضغط سداد هذه الودائع في تواريخ استحقاقاتها، في ظل الوضع الاقتصادي الحالي لمصر، والذي يشير إلى استمرار أزمته الاقتصادية لفترة قد تمتد إلى خمس سنوات.
لا شك أن الشهور المقبلة ستشكل ضغطًا على احتياطي النقد الأجنبي، ما لم تفلح مصر في إجراء مفاوضات مع قطر بشكل ما لتأجيل سداد هذه الوديعة، وإذا لم يتحقق ذلك، فلن يكون لدى مصر سوى اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، ليزيد من أعباء الدين الخارجي الذي وصل لأكثر من 45 مليار دولار في مارس/آذار 2014.
فضلًا عن تعرض الجنيه المصري لمزيد من الانخفاض، نتيجة الطلب على الدولار للوفاء بالواردات من قبل القطاع الخاص من جانب، ومن جانب آخر السوق السوداء النشطة في مصر، والتي تتفاعل مع أزمات الدولار بمرونة عالية.
ومما يقيد يد صانع السياسة النقدية في مصر عن التخلي عن سياسة حماية الجنيه المصري، أن القطاع الإنتاجي في مصر غير مرن، لكي يستفيد من هذه الميزة، ويلبي جزءًا كبيرًا من احتياجات السوق، تعويضًا عن الاستيراد، أو يتجه من هذه الميزة وينشط في مجال التصدير.
والتاريخ الاقتصادي القريب لمصر يدلل على غياب هذه المرونة لدى القطاع الإنتاجي في مصر، ففي عام 2003، عندما تبنى رئيس الوزراء حينئذ عاطف عبيد تعويم الجنيه المصري في مطلع عام 2003، دفعت مصر فاتورة غالية للواردات، وظلت الصادرات كما هي، دون تغير يذكر.
فما بالنا في الوقت الحالي، الذي يعاني فيه القطاع الإنتاجي أزمة الطاقة، إذ تُغل يد الحكومة في توفير الطاقة اللازمة للمصانع، وتعمل على توفير الطاقة لإنارة البيوت والاستخدام التجاري، وتمنع الطاقة عن المصانع، كما أشار إلى ذلك تقرير صدر مؤخرًا عن وزارة البترول.
ومما يدلل على تفاقم أزمة مصر في النقد الأجنبي، تصريحات رئيس الوزراء إبراهيم محلب من أن أزمة الكهرباء الحالية التي تعاني منها مصر، تحتاج عشرة مليارات دولار لحلها، وما يمكن قراءته من خلال تصريح رئيس الوزراء، أن حكومته، اختارت البديل الآخر نظرًا لعدم توافر التمويل، فاتجهت إلى سياسة تخفيف الأحمال، والعملية التبادلية بين توفير الطاقة بين البيوت والأغراض التجارية من جهة، واحتياجات المصانع من جهة أخرى.
إن ما حافظ على هامش استقرار نسبي لاحتياطي النقد الأجنبي لمصر على مدار عام 2014/2013 وحتى الآن، عند متوسط شهري يبلغ 17 مليار دولار تقريبًا، تلك الإمدادات النفطية من دول الخليج الداعمة لمصر، وهو ما يعني أن هذا الاستقرار النسبي معرض للانهيار إذا ما تخلت دول الخليج عن استمرار الإمدادات النفطية، والتي أعلن أنها ستنتهي في أغسطس/آب 2014، ومن المرجح أن تستمر هذه الإمدادات ولكن ليس في صورة منح، بل في صورة تسهيلات ائتمانية لفترات طويلة. وتقدر تكلفة استيراد النفط بـ 1.5 مليار دولار شهريًا.
يتطلب الأمر إدارة جديدة وآليات غير تقليدية من إدارة السياسة النقدية في مصر، يصاحبها تشجيع من قبل وزارة الاستثمار وباقي مؤسسات الدولة، لتحريك النشاطات الإنتاجية، سواء كان مصدرها الاستثمارات المحلية أو الأجنبية، وإن كانت عقبة حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني تحول دون وجود حالة من التفاؤل في تدفقات الاستثمار في الأجل القصير.
كما أن تداول النقد الأجنبي في مصر خارج الجهاز المصرفي، دون ضوابط، يسمح بنشاط فاعل لتجار السوق السوداء، لا يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها مصر بشكل عام، واحتياطي النقد الأجنبي بشكل خاص، فيجب تضييق الخناق على حركة النقد الأجنبي خارج الجهاز المصرفي المصري، صرفًا وإيداعًا، حتى تعود تلك الأموال من خارج الجهاز المصرفي إليه، مما يسمح له بمرونة أكبر في إدارة سعر الصرف.
ستبقى الحلول الجزئية والاستثنائية هي السمة الرئيسة للتعامل مع المشكلات والقضايا الاقتصادية، ما لم تتوصل مصر لحل سياسي لأزمتها، حتى تستطيع الوصول لحالة من الاستقرار، تؤهلها لتعامل جذري وصحيح مع ما حل بها من مشكلات وأزمة اقتصادية.