– حجم الاستثمارات العربية البينية
– الخيارات المطروحة
– مسارات الاستثمار
ظل النفط خلال المرحلة الماضية عصب الاقتصاد العربي بوجه عام، وللدول الخليجية بوجه خاص، ولا يزال يلعب هذا الدور حالياً، خاصة بعد الارتفاعات المستمرة في أسعاره منذ عام 2003 وحتى الآن.
وفى ظل التوقعات المستقبلية باستمرار ارتفاع أسعار النفط نظراً لتوتر الأجواء السياسية بالمنطقة، فإن عوائد التدفق النفطية -بلا شك- تبحث عن منافذ تستوعبها، ويظل الخيار التنموي هو المفضل، سواء لأصحاب هذه العوائد أو لمستقبلي الاستثمارات من البلدان غير النفطية.
والحقيقة المسلم بها هي أن الوفرة في عوائد النفط التي تشهدها المنطقة ليست هي الأولى من نوعها، إذ شهدت المنطقة مثلها في مطلع السبعينيات إثر الحرب المصرية السورية مع الكيان الصهيوني عام 1973، ونجح العرب في استغلال ورقة البترول للضغط على الغرب الموالي لإسرائيل. كما شهدت مثلها في مطلع الثمانينيات مع نشوب أزمة الخليج الأولى، من خلال الحرب التي اشتعلت بين إيران والعراق لمدة عقد من الزمن.
وقد لوحظ من خلال الدراسات التقويمية أن عوائد النفط خلال الفترة الماضية لم يحسن توظيفها بالطريقة التي تغير من شكل المنطقة وشعوبها اقتصاديا، وتحقق نقلة نوعية في بنيتها التنموية.
ويكون من الضرورة أن نعيد النظر في إمكان تحقيق استفادة أفضل هذه المرة، خاصة أن الأوضاع الاقتصادية لدول المنطقة تشهد تدهورا في العديد من جوانبها في ظل الظروف العالمية الحالية.
"
عوائد النفط في الفترة الماضية لم يحسن توظيفها بالطريقة التي تغير من شكل المنطقة وشعوبها اقتصاديا وتحقق نقلة نوعية في بنيتها التنموية، ومن الضروري أن نعيد النظر في إمكان تحقيق استفادة أفضل هذه المرة
"
حسبما يشير تقرير مناخ الاستثمار في العالم العربي لعام 2006 الصادر عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار، فقد بلغت الاستثمارات العربية البينية التراكمية خلال الفترة من 1995 إلى 2006 نحو 82 مليار دولار.
ويعتبر عام 2005 أفضل الأعوام خلال الفترة من حيث تدفق الاستثمارات العربية التي بلغت في هذا العام نحو 38 مليار دولار، في حين بلغ هذا المعدل عام 2006 نحو 17.5 مليارا.
وتظهر هنا بوضوح آثار التدفق النقدي النفطي من خلال مؤشرات عامي 2005 و2006، ويظهر هذا بوضوح عبر معرفة هذا الأداء خلال عام 1995 حين بلغ تدفق الاستثمارات العربية نحو 1.4 مليار دولار.
كما يكون أثر التدفق النقدي للنفط أكثر وضوحا إذا ما نظرنا إلى حجم التدفق الاستثماري العربي البيني خلال الفترة من 1985 إلى 2006 حين بلغ 91.5 مليار دولار، أي أن الفترة من 1985 إلى 1995 لم يزد فيها تدفق الاستثمار العربي البيني عن 9.5 مليارات بمتوسط سنوي أقل من مليار دولار، في حين يصل هذا المتوسط خلال الفترة من 1995 إلى 2006 إلى 4.16 مليارات.
• يوجد نوع من التركيز في توجيه الاستثمارات العربية، إذ حظيت خمس دول فقط بنحو 78% من حجم التدفق الاستثماري العربي خلال الفترة من 1995 إلى 2006، وهي: السعودية 45%، ولبنان 11%، والسودان 10%، ومصر 8%، وتونس 4.7%).
• المملكة العربية السعودية التي يفترض أنها دولة تدفق حازت على أكبر نسبة من الاستثمارات العربية البينية خلال الفترة من 1995 إلى 2006، وقد يعود ذلك إلى أن معظم التدفق الاستثماري العربي يأتي من دول خليجية.
وبالتالي فثقتهم في مناخ الاستثمار بالمملكة أكبر من غيرها من البلدان المستقبلة للاستثمار، خاصة بعدما أعلنت السعودية تشغيل منطقة الملك عبد الله الاقتصادية، أو أن فرص الاستثمار المتاحة في المملكة أكثر من غيرها، أو أنها تتسم بالقدرة على مخاطبة المستثمر بشكل أفضل من غيرها.
• لا يلاحظ وجود لافت للنظر لتوجه الاستثمارات العربية البينية إلى البلدان العربية الأقل فقرا، باستثناء السودان الذي استوعب نسبة لا بأس بها قدرت بنحو 10%.
ولكن عرف أن الاستثمارات العربية وغيرها لم تتجه نحو السودان إلا بعد الإعلان عن إنتاجه للنفط بكميات تسمح له بالتصدير، ما دفع حكومته للتوسع في بعض مشروعات البنية الأساسية والتوجه بشكل كبير إلى قطاع الخدمات الذي يعانى فيه السودان من فقر شديد خلال السنوات الماضية.
وأيضاً شهد اليمن وجود نسبة لا تتجاوز 5% في أحسن الأحوال من الاستثمارات البينية العربية، في حين غابت هذه الاستثمارات أو وجدت بنسبة غير ملموسة في كل من موريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر.
"
قراءة البيانات تظهر إلى متى ستظل فاتورة الواردات الغذائية العربية مرتفعة، ومن المتوقع أن يزداد ارتفاعها في ظل ارتفاع تكاليف الطاقة، وبسبب انصراف الاستثمارات العربية عن هذا القطاع رغم العجز الكبير الذي تعانى منه الدول العربية فيه
"
هناك سيناريوهان لمسارات التنمية في العالم العربي من خلال توجهات الاستثمار للعوائد النفطية، وهما:
الأول- الاستمرار على الاتجاه نحو النظرة قصيرة الأجل، وهو الاتجاه نحو المضاربات على الأراضي والعقارات وفي البورصات العربية، حيث أمكن رصد ارتفاع كبير في أسعار الأراضي بمنطقة الخليج وفي بعض البلدان العربية الأخرى -مثل مصر ولبنان والمغرب- بسبب عوائد النفط التي تبحث عن فرص للاستثمار.
كما شهدت البورصات العربية حضورا كبيرا للأموال النفطية أثر في حجم تعاملاتها، إذ بلغت القيمة السوقية لأسواق المال العربية في نهاية 2005 نحو 1.2 تريليون دولار، وتراجعت هذه القيمة إلى نحو 888 مليارا نهاية عام 2006.
وشهدت معظم الأسواق العربية خلال العامين الماضيين عمليات مضاربة أثرت بشكل كبير على أدائها ارتفاعاً وانخفاضاً، بشكل ملحوظ.
ويخشى من الاستمرار في هذا الاتجاه أن تتحقق بعض الظواهر السلبية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وهي:
1- تكريس حقيقة الاقتصاد الريعي كسمة للاقتصاد العربي.
2- ارتفاع معدلات التضخم في الاقتصاديات العربية خاصة في المنطقة الخليجية، حيث تشير البيانات الخاصة بمعدل التضخم في العالم العربي بنحو 5.7%، أما منطقة الخليج فكانت من أكثر البلدان تأثراً بارتفاع معدلات التضخم التي وصلت نحو 7.5%
3- بقاء معدلات البطالة على ما هي عليه رغم كبر معدلاتها بين أقاليم العالم المختلفة، خاصة بين الشباب، بل ويساعد هذا على زيادة وتفاقم معدلات البطالة في المنطقة.
يشار إلى أن معدلات البطالة في العالم العربي تبلغ نحو 18%، وترتفع هذه النسبة بين الشباب لتصل نحو 40%
4- نظرا لأن مجالات الاستثمار في الأجل القصير لا تساعد على خلق فرص عمل جديدة أو أنها لا تمثل تحقيق قيمة مضافة بشكل جدي، فإن النتيجة المتوقعة هي زيادة الخلل في توزيع الدخل والثروة، حيث يجني المضاربون -وهم قلة- الجزء الأكبر من نتائج هذا النشاط، وبالتالي تتسع شريحة محدودي الدخل وتتفاقم مشكلة الفقر.
الثاني- توجه هذه الاستثمارات إلى بناء قاعدة إنتاجية للعالم العربي. وهذا الاتجاه لا يحظى باهتمامات الاستثمارات العربية، وتظهر أهميته من خلال التعرف على الاتجاه القطاعي للاستثمارات العربية البينية، وكذلك طبيعة الناتج المحلي الإنتاجي في العالم العربي.
• على صعيد الاتجاه القطاعي للاستثمارات البينية العربية، تبين من خلال بيانات عام 2006 أن قطاع الخدمات استحوذ على نحو 66% من حجم الاستثمارات أي ثلثي الاستثمارات، في حين أتى قطاع الصناعة في المرتبة الثانية بنصيب بلغ 32%، ثم قطاع الزراعة بنصيب متدن بلغ 2% فقط.
ولعل القراءة السريعة هنا لهذه البيانات تظهر إلى متى ستظل فاتورة الواردات الغذائية العربية مرتفعة، إذ تقدر بنحو 20 مليار دولار سنوياً، ومن المتوقع أن تشهد ارتفاعاً أكبر في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة، وبسبب انصراف الاستثمارات العربية عن هذا القطاع رغم العجز الكبير الذي تعاني منه الدول العربية فيه.
• أما بالنسبة لمكونات الناتج المحلي الإجمالي للعالم العربي الذي بلغ عام 2005 نحو 1.06 تريليون دولار، فقد وجد أن الصناعات الاستخراجية هي الأكثر حظاً بين مكوناته، إذ تصل نحو 40%. وقد كان هذا النمو في مساهمة الصناعات الاستخراجية بسبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط.
كما تراجعت مساهمة معظم القطاعات لهذا السبب أيضاً، سواء الصناعات التحويلية التي حققت معدل 9.8% أو قطاع الزراعة الذي أسهم بنحو 7.5 %، وحتى الخدمات الحكومية تراجعت مساهمتها أمام حصة الصناعات الاستخراجية لتصل إلى 11.2%.
"
من الضروري أن تكون التنمية العربية تنمية احتوائية كي تستوعب البلدان التي تتمتع بموارد طبيعية وبشرية والبلدان ذات الموارد المالية، فتنتج عن ذلك تنمية تتوزع عوائدها بما يحدث نوعا من التوازن الاقتصادي بين دول المنطقة ويعمل على الارتقاء بها إلى مصاف الدول المصنعة
"
ومن هنا فإن توجيه الاستثمارات العربية البينية ينبغي أن يذهب إلى مسارات ثلاثة هامة هي:
1- قطاع الصناعة وخاصة الصناعات التحويلية، لما يتميز به هذا القطاع من قدرة على تحقيق قيمة مضافة، وخلق فرص عمل أكبر تتسم بالديمومة.
فتركيا -وهي دولة غير مصدرة للنفط- بلغ ناتجها المحلي الإجمالي عام 2004 نحو 302 مليار دولار، في حين أن السعودية -وهي من أكبر الدول المصدرة للنفط- بلغ ناتجها المحلي الإجمالي 250 مليار دولار فقط في نفس العام.
وثمة مؤشر آخر يعكس أهمية قطاع الصناعة في تركيا عنه في السعودية، وهو السلع الصناعية كنسبة من الصادرات، ففي تركيا تبلغ هذه النسبة 85% وفي السعودية 12% فقط.
2- قطاع الزراعة، إذ رغم توافر مقومات نهوض زراعي قوي في العالم العربي إذا ما أتى هذا الأمر في إطار التعاون الاقتصادي بين دوله، فإن الفترة السابقة ظلت تمثل تراجع مساهمة قطاع الزراعة في العالم العربي، لصالح قطاعات أخرى.
إن توافر السلع الإستراتيجية لدى العديد من الدول العربية أصبح قضية أمن قومي، ولا ينبغي أن يمر الوقت دون أن تؤخذ بشأنها خطوات جادة للتنمية والاستثمار بقوة في هذا القطاع.
3- قطاع الخدمات الإنتاجية تحتاج العملية التنموية والنشاط الاقتصادي إلى توافر مجموعة من الخدمات التي تسهل وتيسر عملية الإنتاج بمراحلها المختلفة، ولكن الملاحظ أن قطاع الخدمات الاجتماعية والاستهلاكية أكبر في العالم العربي من قطاع الخدمات الإنتاجية.
وبعد هذا الظرف التاريخي اقتصاديا لعوائد النفط ينبغي أن تسرع الدول العربية بعملية تصالحية داخلية بين نظم حكمها وشعوبها، بما يوجد نوعا من الإجماع على مشروع تنمية ينهض بهذه الدول والشعوب، لتخرج من دائرة التخلف التي بقيت فيها لفترات طويلة.
ومن الضروري أيضا أن تكون التنمية العربية تنمية احتوائية من حيث المشاركة والعائد، كي تستوعب البلدان التي تتمتع بموارد طبيعية وبشرية، وأيضاً البلدان ذات الموارد المالية، وينتج عن هذا تنمية تتوزع عوائدها بما يحدث نوعا من التوازن الاقتصادي بين دول المنطقة ويعمل على الارتقاء بها إلى مصاف الدول المصنعة حديثاً، أملاً في تحقيق مرتبة الدول المتقدمة.