ظن البعض مع صدمة انهيار أسعار الخام الأميركي أمس الاثنين 20 أبريل/نيسان، أنها سحابة صيف، وذهبت التفسيرات، لتقول إن ذلك مرتبط بآخر أيام التعاقد على شحنات مايو/أيار المقبل.
لكن أداء السوق اليوم الثلاثاء، أكد أن الأمر عاصفة شديدة الوطأة على أسواق النفط، حيث استمرت عمليات بيع النفط من الخام الأميركي، بأسعار سالبة، وإن كانت أفضل مما كانت عليه أمس، وكذلك استمرت عمليات هبوط أسعار خام برنت وسلة أوبك في السوق الدولية.
ودون شك أن الحالة النفسية التي خلقتها أزمة انهيار أسعار الخام الأميركي، ألقت بظلالها على أسواق المال، ورسخت لتوقعات باستمرار موجات الهبوط في سوق النفط، وتبقى القضية الرئيسة التي يمكنها أن تنقذ اقتصاد العالم من انتكاسات النفط وغيره من السلع، هي قضية تحريك النشاط الاقتصادي، والخروج من أزمة كورونا، أما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فستكون الحال قاصرة على رصد الانهيارات هنا وهناك.
وفي ضوء ما شهدته أسواق النفط أمس من انهيار أسعار الخام من النفط الأميركي، وتراجع بقية أنواع الخام من النفط، نحاول في هذه السطور، إلقاء الضوء على بعض التساؤلات المتعلقة بما حدث، وإمكانية استقراء واستشراف المستقبل.
لماذا وصلت أسعار الخام الأميركي إلى ما دون الصفر؟
سوق النفط الدولية، شديدة التأثر بالمتغيرات السياسية والاقتصادية بشكل كبير، وهي قائمة على العرض والطلب، ومن شأن التداعيات السلبية على الصعيد الاقتصادي لأزمة كورونا، أن يتراجع الطلب بشكل كبير على النفط.
والطلب على النفط وإن كان محددًا أساسيًا، إلا أنه يعد متغيرًا تابعًا في معادلة النفط، لأن المتغير المستقل هو الطلب على السلع والخدمات في السوق الدولية، ولقد تسببت أزمة كورونا، في شل حركة إنتاج السلع والخدمات على مستوى العالم، ومن شأن تصريحات بعض المسؤولين في المؤسسات المالية الدولية، أن تؤثر بشكل كبير على الصورة الإجمالية لأداء النشاط الاقتصادي العالمي.
فخلال الأسابيع الماضية، صرحت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، بأن الاقتصاد العالمي، قد دخل بالفعل مرحلة الركود، وكان لذلك انعكاساته في تقديرات سوق النفط، في تعاملاته، لذلك بدأت الصفقات الآجلة، في كافة أنواع الخام من النفط بالتراجع، لأن مثل هذا التصريح يلقي بمزيد من الضبابية حول مستقبل الاقتصاد العالمي.
كما أن معظم الأخبار التي تنشر عن الجهود البحثية الطبية والصيدلانية الخاصة بالوصول للقاح خاص بفيروس كورونا، تتحدث عن ستة أشهر على الأقل وبعضها يتحدث عن عام، وهو ما يجعل الرهان على تحمل مخاطر الاحتفاظ بالنفط وتخزينه عالية جدا، لارتفاع التكاليف.
لكن ما أدى إلى هبوط سعر الخام الأميركي بشكل مباشر، إلى ما دون الصفر، وتحقيق أسعار سالبة، أن الشركات المنتجة، تغافلت عن متطلبات السوق المتراجعة، وظلت متمسكة بمبدأ خاطئ، وهو الاحتفاظ بحصتها من السوق، أو سعيها للحصول على أية عوائد، تعوضها عن خسائر انخفاض أسعار السوق الدولية، كما أن المنتجين على مستوى أميركا لم ينسقوا فيما بينهم، لإدارة عمليات الإنتاج، والحفاظ على أسعار اقتصادية بالسوق.
الأصل في التعاملات التجارية والاقتصادية، أن يتم تقديم السلعة أو الخدمة، نظير مقابل مادي -قلّ أو كَثُر- ولكن في ظل ظروف استئنائية، قد يجد المنتِج نفسه أمام مشكلة عدم قدرته على تصريف المنتَج، فيدفع لمن يأخذه مقابلا للتخلص منه، وهذا ما حدث في سوق النفط أمس الاثنين 20 أبريل/نيسان 2020، حيث تم عرض الخام الأميركي، بأسعار سالبة، وصلت إلى 37 دولارا، يدفعها المنتِج للمشتري في بعض الصفقات.
وفي القطاع الزراعي، هناك شواهد مسبوقة، وإن كانت على نطاق أضيق مما حصل في سوق النفط، حيث يعرض المزارعون سلعهم بالحقول مجانًا، أو يدفعون بعض المبالغ لمن يخلصهم منها، لأن تكلفة الحصاد والنقل، أكبر من عرضها مجانًا، ودفع بعض المبالغ لمن يقبلون بها أفضل.
أيضًا يوجد الآن في بعض البنوك، ما يعرف بسعر الفائدة السالب، حيث يدفع المودعون رسوما للبنوك نظير الاحتفاظ بودائعهم، ولا تقدم لهم البنوك فوائد على تلك الودائع، وهذه حال قائمة الآن في ألمانيا، من أجل تشجيع الناس على الاستهلاك، وعدم قدرة البنوك على تصريف الودائع في ظل حالة الركود.
يعرف سوق النفط العالمي، ثلاثة أنواع رئيسة، تعد مقياسًا لأداء الأسعار، وهي خام برنت، والخام الأميركي، وخام سلة أوبك.
والفارق بين هذه الأنواع، هو كثافة الخام، وكذلك مدى نقائه من الشوائب. ويأتي خام برنت في المرتبة الأولى، نظرًا لارتفاع درجة نقائه، ولذلك نجد أنه الأعلى سعرًا، بينما الخام الأميركي أقل من حيث درجة نقائه، حيث ترتفع فيه نسب الشوائب، وكذلك كثافته أعلى، وبالتالي أقل سعرًا من خام برنت. وفي العادة يكون هناك فرق في السعر بين خام برنت والخام الأميركي بحدود من خمسة دولارات إلى عشرة دولارات، في الأوضاع الطبيعية.
أما خام أوبك فهو يمثل سلة من المنتجات النفطية، مختلفة التربة، وهي دون شك تعكس أنواعا مختلفة من الكثافات ودرجة النقاء، وتعبر السلة عن متوسط أسعار النفط بالدول أعضاء أوبك. وفي الغالب يكون سعر سلة أوبك وسيطا بين خام برنت والخام الأميركي.
يرجع الانهيار في سعر نفط الخام الأميركي بشكل كبير، مقارنة، بتراجع ملحوظ في أسعار برنت، إلى أن الخام الأميركي يعاني من مشكلة داخل منطقة إنتاجه، وهي الولايات المتحدة الأميركية، التي تعد سوقا مفتوحا، ويتم استيراد نفط بكميات كبيرة من خارج أميركا، في ضوء آلية العرض والطلب، فكان العرض في السوق الأميركية يفوق الطلب بشكل كبير.
ولذلك وجدنا تصريح ترامب اليوم 21 أبريل/نيسان، بأن حكومته تدرس وقف استيراد الشحنات القادمة من السعودية، وهو ما يعد خطوة من قبل الحكومة لتخفيض المعروض النفطي في السوق الأميركية.
كما صرح ترامب كذلك بأن أميركا ستستغل الانهيار الحادث في أسعار النفط، لملء خزاناتها الإستراتيجية بنحو 75 مليون برميل، والجدير بالذكر أن ترامب قد صرح من قبل عقب توقيع اتفاق "أوبك +" بأن سياساته لتخفيض المعروض النفطي في السوق، بعد يونيو/حزيران، أن يتم ملء الخزانات الإستراتيجية بنحو 19 مليون برميل فقط.
ويعد حديث ترامب برفع الكميات التي يعتزم تخزينها من النفط، تعبيرًا عن عمق الأزمة في السوق الأميركية، ومدى الخسائر التي مُنيت بها شركات النفط الأميركية.
أما بالنسبة لخام برنت، فهناك ملاحظات عامة بشأنه، أدت إلى تراجع سعره وفق معطيات السوق، ولكن الأسعار لم تشهد الانهيار الذي شهده الخام الأميركي، بسبب أن الدول المنتجة لخام برنت، لا تستورد النفط، فضلا عن محدودية أسواقها، وهي التي تتحكم في سوقها النفطي بشكل كبير.. وكذلك تمتلك الدول المصدرة لخام برنت السيطرة على عمليات الإنتاج، سواء كانت منفردة، أو مع شركاء أجانب، وبالتالي فهي تملك حصة كبيرة بحدود 60% من إنتاجها، تمكنها من ضبط المعروض إلى حد ما، بما يحافظ على الأسعار، وإن كانت حدودها منخفضة.
وخير مثال على ذلك ما نشرته رويترز اليوم، من أن شركة أدنوك الإماراتية، أبلغت المستوردين لنفطها، بأنها ستخفض كميات إنتاجها وتوريدها للنفط، بنسب تتراوح ما بين 5% و20%.
بحسب واقع الطلب على النفط في السوق الدولية، تكون طبيعة العقود والصفقات المبرمة، ففي فترات الرواج الاقتصادي وزيادة الطلب على النفط، ينشط المضاربون في شراء كميات من النفط لتكون جاهزة، رهن توجيهها لطالبيها، وتكون كميات النفط حاضرة على ظهور المراكب، وعادة ما تُدفع فيها أسعار أعلى من الصفقات الآجلة.
ولا يعد النشاط في الصفقات أو العقود العاجلة قاصرا على المضاربين فقط، بل قد تمارسه الدول المنتجة بشكل مباشر، حسب العوائد المتحققة.
أما الصفقات الآجلة، فهي تلك التي تبرم على مهل، وتراعى فيها طبيعة الإنتاج والنقل، وتنظيم عقود لفترات طويلة، ولكن السوق الدولية، في المتوسط تعرف عقودا آجلة لمدة من شهر إلى ثلاثة أشهر، ولا تزيد على ذلك في الغالب، مخافة التقلبات السعرية هبوطًا وصعودًا. ولكن قد تكون هناك عقود ممتدة لسنوات لاتفاقيات ثنائية بين الدول، وغالبًا ما تكون الاعتبارات السياسية فيها هي الأصل.
يختلف تأثير انهيار أسعار النفط على المستهلكين في أميركا عنه في بقية العالم والمنطقة العربية، ففي أميركا وبقية الدول التي تستخدم الخام الأميركي ولديها سوق حرة، يحكمها العرض والطلب، ويمكن أن تشهد انخفاضًا في أسعار الوقود والطاقة بشكل عام، وهو ما لوحظ خلال الفترة الماضية، منذ مطلع عام 2020.
وسوف تستمر هذه الحال من تراجع الأسعار حتى نهاية عام 2020 على الأقل، ولكن هذه الميزة ستفقد خصائصها، طالما بقيت الأنشطة الاقتصادية بشكل عام، تعاني من الركود، فماذا يعني انخفاض أسعار الوقود، ما لم يكن هناك عمل يستفاد منه في ذلك.. قد يكون الإيجابي في الأمر بالنسبة للحكومات والأفراد، هو انخفاض فواتير استهلاك المنازل من الكهرباء، في البلدان التي تعتمد على توليد الطاقة من النفط.
أما التأثير على المستهلكين في الدول العربية، فسيختلف من دولة إلى أخرى، ففي الدول النفطية، قد لا يستفيد المواطن من هذا الأمر بشكل كبير بل قد يتضرر، لأن الحكومات سوف تتراجع إيراداتها، وبالتالي لن تقوم بخفض أسعار الوقود، مخافة أن تجمع على نفسها عدة مضارّ، وفي أحسن الأحوال قد تقوم بعض الحكومات العربية النفطية بتخفيض طفيف وغير مؤثر في حياة المواطن بالنسبة لأسعار الوقود والطاقة بشكل عام.
أما في الدول العربية غير النفطية، فإن الحكومات عادة ما تبرر عدم تخفيض أسعار الطاقة والوقود نتيجة انخفاض النفط في السوق الدولية، بوجود عجز كبير في موازناتها، أو شدة معاناتها من أزمة الديون المحلية والخارجية.
فضلًا عن عدم مرونة السياسات السعرية في البلدان العربية غير النفطية، وعدم تمكين مجتمع الأعمال أو المجتمع المدني من ممارسة ضغوط على الحكومات، لتفعيل مزايا من قبيل خفض أسعار الوقود، بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق الدولية.