كشأن العديد من أبناء الدول النامية، وخاصة القادمين من دول أفريقية، عكست وسائل الإعلام اختيار الخبيرة النيجيرية أكونجور إيويلا (66 عاما) مديرة لمنظمة التجارة العالمية وكأنه انتصار للدول النامية أو الأفريقية في جولة من جوالات الصراع مع الدول المتقدمة.
كما تم تناول اختيار أكونجور أيضًا في إطار التميز الإيجابي لصالح المرأة باعتبارها أول امرأة تتولى منصب مدير المنظمة بعد 6 رجال تولوا المنصب منذ نشأة المنظمة في عام 1995.
يذكر أن المنظمات الدولية تحكمها مصالح الكبار وإن كان على رأسها أبناء الدول النامية، ولم نلحظ على مدى عقود انحياز أحد أبناء الدول النامية الذين تولوا منصب الأمين العام للأمم المتحدة -مثلًا- لصالح قضايا الدول النامية، ومخالفة الدول المتقدمة.
كما أن منظمة التجارة العالمية لها خصوصية أكثر من غيرها من المنظمات الدولية الأخرى، حيث إن قراراتها وما يتم التوصل إليه من اتفاقيات أو إجراءات تمس مصالح الدول مباشرة، وبالتالي لن يكون هناك مجال للمجاملة للانتماء الجغرافي أو الجنس، فالعبرة ستكون بماذا أنجزت المنظمة لصالح الدول الأعضاء، وخاصة البلدان الكبيرة.
ولعل الأجواء التي تم فيها اختيار أكونجور إيويلا مديرة لمنظمة التجارة العالمية، تساعدها في تحقيق حالة نجاح من حيث التغيير في الموقف الأميركي بعد إزاحة دونالد ترامب من منصب الرئاسة، والذي عرقل عمل منظمة التجارة منذ مجيئه للحكم في يناير/كانون الثاني 2017.
فترامب هو من أجج الحرب التجارية مع الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وغيرها من الدول، بل هو من هدد بخروج أميركا من منظمة التجارة في أغسطس/آب 2018 بدعوى أن المنظمة تعمل ضد أميركا.
ولكن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هي من وقفت بقوة خلف اختيار أكونجور إيويلا مديرة لمنظمة التجارة، وهي رغبة تدفعها رغبات معظم دول العالم في التخلص من حالة الركود التي انتابت الاقتصاد العالمي في ظل جائحة كورونا، وكذلك تفعيل المنظمة للقيام بدورها في تسهيل التجارة الدولية والعمل على إنهاء النزاعات المتعلقة بها.
ويعتقد أن أميركا سوف تسهل عمل لجنة فض المنازعات بالمنظمة، والتي جمد عملها ترامب من خلال منع القضاة الأميركيين الممثلين في اللجنة من الحضور.
لم تكن حالة الدعم القوي الذي نالته النيجيرية أكونجور إيويلا من قبل الاتحاد الأوروبي وأميركا ليأتي من فراغ، بل من خلال عملها في البنك الدولي لمدة 25 عامًا، وبالتالي فهي من الداعين لسياسات العولمة ومؤيدي الرأسمالية والتوجهات الاقتصادية لكل من الاتحاد الأوروبي وأميركا، ولم يمنع ذلك بالطبع أن تنال النيجيرية تأييد الاتحاد الأفريقي.
وتأتي أكونجور من خلفية اقتصادية تتعلق بالخبرات في مجال المالية العامة، حيث تولت منصب وزيرة المالية في بلدها، ومن خلال عملها في البنك الدولي فإن ارتباطها بالخبرات المالية والتنموية أكبر من اهتمامها بمجال التجارة الدولية ومشكلاتها.
وثمة ملاحظة مهمة تتعلق بأداء أكونجور في بلادها وزيرةً للمالية، حيث لم تترك بصمات واضحة تتعلق بتحسين الوضع المالي لبلدها، الذي يعاني من فساد وديون بشكل كبير، بل بالعكس لا تزال نيجيريا تصنف ضمن إحدى أكبر الدول العشر فسادًا على مستوى العالم.
وآلية العمل في منظمة التجارة العالمية تختلف تمامًا عن آلية العمل بالبنك الدولي، حيث يتمتع البنك الدولي كمؤسسة بصلاحيات أكبر في التعامل مع عملائه، كما أن أوروبا وأميركا تعتبران من المتحكمين في توجيه سياساته منذ نشأته في عام 1947 من خلال مجلسه التنفيذي.
فالعمل في البنك الدولي يعطي موظفيه صلاحية كبيرة في قرارات تقديم التمويل من عدمه، وهي علاقة يمكن وصفها بالإذعان لأنها تعتبر علاقة من طرف واحد.
فطالب التمويل من البنك الدولي عادة ما يكون في موقف ضعيف، ولا يكون له الخيار في رفض سياسات البنك المصاحبة لمنح تمويل البنك الدولي.
في حين أنه في منظمة التجارة، يعد المؤتمر الوزاري للمنظمة هو عصب العمل، حيث يتم الاتفاق من خلاله على أجندة العمل المطروحة، وتحديد جوالات التفاوض، والتصويت على ما يتخذ من قرارات، ولذلك تسمى اتفاقيات منظمة التجارة العالمية بالاتفاقيات متعددة الأطراف.
وبالتالي، وإن كانت أكونجور ستصير مديرة لمنظمة التجارة إلا أن صلاحياتها محدودة بحكم لوائح عمل منظمة التجارة، وكذلك الصلاحيات الكبيرة التي يتمتع بها المؤتمر الوزاري، كما أن أعضاء منظمة التجارة، وبخاصة الكبار منهم، ليسوا في وضع يماثل طالبي التمويل من البنك الدولي، فهناك الصين والاتحاد الأوروبي واليابان وباقي الدول الصاعدة تطالب بإلغاء الحماية التجارية، وتتطلع لعودة عمل المنظمة لما كانت عليه قبل مجيء ترامب على الأقل.
سوف تتولى أكونجور مهامها مديرة لمنظمة التجارة العالمية في مارس/آذار 2021 ولمدة 4 سنوات تنتهي في عام 2025، وخلال كلمتها التي ألقتها بعد قرار اختيارها، أشارت إلى أهمية عمل المنظمة على إزالة المعوقات المتعلقة بالتجارة الدولية في ظل جائحة كورونا، كما أنها ركزت على تبني ملفين رئيسيين خلال الفترة القادمة، الملف الأول هو السعي للوصول لاتفاق حول الدعم الرسمي المقدم لصيد الأسماك، والملف الثاني يتصل بإعادة تشكيل هيئة فض المنازعات.
ونحسب أن الملف الثاني سيكون الأسرع من حيث العمل فيه وإنجازه، وذلك لأنه يمثل رغبة أميركية، فإدارة بايدن تتبنى سياسة محو كل الخطوات التي اتخذها الرئيس الأميركي السابق ترامب، والتي من شأنها تراجع الدور الأميركي في منظومة العولمة.
ويعد العمل في الملف الثاني شأنا إجرائيا يتوقف على سرعة تعاطي إدارة بايدن مع مسألة السماح للقضاة الأميركيين الممثلين في لجنة القضاة بهيئة فض المنازعات بالحضور وممارسة أعمالهم، وهو ما سيُصدر حالة نجاح في الأجل القصير لكلا الطرفين أكونجور وإدارة بايدن، فكلاهما يحتاج إلى تحقيق حالة نجاح.
وملف الاتفاق حول الدعم الرسمي المقدم لصيد الأسماك يتسم بالفنية، ويحتاج إلى جولات من المفاوضات لما يعكسه من التزامات بالنسبة للدول في هذا الشأن، ولذلك سوف يستغرق وقتًا قد يصل إلى فترة تولي أكونجور، وإن تحقق قبل ذلك فسيكون بلا شك حالة نجاح.
وحتى إن كانت أكونجور ستنجح في تولي إدارة المنظمة لولاية ثانية، فسيكون إنجازها لهذا الملف حالة نجاح لأن الوصول لاتفاق متعدد الأطراف في إطار منظمة التجارة العالمية ليس بالأمر الهين.
ليس الأمر بالمهمة السهلة لأكونجور لإدارة منظمة التجارة العالمية، واختيارها ليس بمثابة تمثيل رياضي أو انتصار لمعركة المرأة ضد الرجل، فتناول مثل هذه الأمور لا يتجاوز السطور التي أشارت إليه، في حين أن مصالح الدول النامية المتعلقة بمجال منظمة التجارة مثلًا تأتي في مناداتها بتجارة عادلة وليس تجارة حرة، وهو ما لن تتبناه أكونجور مثلًا خلال وجودها في منصبها الجديد.
قد يكون من السهل على أكونجور الإشارة إلى حقوق المرأة في الشأن الاقتصادي بشكل عام، أو في شؤون التجارة بشأن خاص، ولكنه سيكون مجرد نداء أو كلمة تلقيها في مناسبة، ولن ترقى لالتزام أو قانون يترتب عليه إنهاء مشكلات تخص المرأة، أو يضمن لها واقعا يميزها عن الرجال.
وخلاصة الأمر أن شأن التجارة العالمية تحكمه المصالح وليس العواطف، فابحثوا عن مصالحكم أفضل