مثلت قضية الطاقة واحدة من القضايا المصيرية للمنطقة العربية، إنتاجا واستهلاكا. فعلى صعيد الإنتاج استحوذت المنطقة منذ عقود على كميات هائلة من النفط والغاز الطبيعي، واستجلب النفط عوائد مالية لدول المنطقة مثل نقلة اقتصادية لبلدانها النفطية وغير النفطية.
لكن امتلاك الدول العربية لهذه الثروة من النفط والغاز استجلب تكالبا للقوى الكبرى للسيطرة على هذه الثروة التي تعد أحد المتطلبات الضرورية للحضارة الحديثة، مما دفع القوى الكبرى إلى احتلال بعض الدول النفطية العربية.
وبنت الدول الكبرى إستراتيجيتها من أجل السيطرة على منابع النفط والغاز في المنطقة العربية بصورة مباشرة عبر وجود الأساطيل الحربية العملاقة في منطقة الخليج، أو رسم الخطط الاقتصادية والمالية، بحيث يُعاد تدوير الثروات المالية من عوائد النفط للدول العربية في دوائر أميركية وغربية.
ومثّل غياب الإستراتيجيات العربية بخصوص الطاقة، على الصعيد الإقليمي والقُطري، قضية مهمة، سواء فيما يتعلق بتوظيف عوائد النفط، أو فيما يتعلق بالتنوع الاقتصادي للاقتصادات النفطية، أو باستثمار عوائد النفط في مشروع تكاملي اقتصادي يعمل على تقوية مقومات الاقتصاد العربي.
وتعد مصر صورة صارخة لعدم تبنيها إستراتيجية للطاقة تلائم التحديات المفروضة عليها بحكم عدد السكان وتزايده المطرد، أو بحكم أعباء التنمية الاقتصادية المطلوب تحقيقها، فمنذ عام 2000 طالب خبراء الطاقة في مصر بضرورة وقف تصدير النفط والغاز الطبيعي لاحتياج مصر إليهما خلال السنوات القادمة بسبب ضعف ما تمتلكه القاهرة من احتياطات وإنتاج للنفط والغاز.
ومع حلول عام 2008 كانت مصر تواجه أزمة حادة في الطاقة، كان من أهم مظاهرها تحولها من دولة مصدرة للنفط والغاز إلى بلد مستورد لهما، في وقت تعاني موازنتها العامة من عجز شديد.
لكن الجديد في المنطقة على صعيد الطاقة الآن هو بزوغ الكيان الصهيوني كمصدر للغاز الطبيعي بسبب استغلاله آبار الغاز الطبيعي على شواطئ البحر الأبيض المتوسط في فلسطين المحتلة، وكذلك تواطؤ الحكومة المصرية بعد الانقلاب العسكري بالتنازل عن حقها في آبار الغاز الطبيعي في مناطق مشتركة في المياه الإقليمية مع فلسطين وقبرص.
وقد أعلن منذ فترة عن إبرام دول عربية مثل مصر والأردن اتفاقيات لاستيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، وهو ما أثار الرأي العام في الدولتين، دون أن يكون لذلك أثر في قرار حكومتي مصر والأردن.
كما أن خطوة إعادة وتطبيع العلاقات بين تركيا والكيان الصهيوني كان أحد أهم دوافعها استفادة تركيا من الإمكانات الجديدة التي امتلكها الكيان الصهيوني في مجال الغاز الطبيعي.
ولكن السؤال الذي تجيب عليه هذه السطور هو هل المنطقة العربية وتركيا في حاجة لاستيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، بصورة تعجز عنها الموارد العربية لتلبية تلك الاحتياجات، أم إن في الأمر مآرب أخرى؟
"
تشير بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2015 إلى أن الدول العربية تستحوذ على 55.2% من الاحتياطي العالمي من النفط، ونسبة 27.5% من احتياطات العالم من الغاز الطبيعي
"
كشف تقرير منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) لعام 2015 عن وجود فائض في إنتاج الطاقة بالمنطقة العربية حسب بيانات عام 2014، فقد بلغ إنتاج الطاقة نحو 37.8 مليون برميل يوميا، في وقت بلغت معدلات الاستهلاك 14 مليون برميل، وهو ما يعني أن الاستهلاك يبلغ نسبة 37%، وتقوم الدول النفطية العربية بتصدير أو تخزين باقي إنتاجها.
ووفق بيانات التقرير الشهري للمنظمة في سبتمبر/أيلول 2016، بلغ إنتاج الدول العربية الأعضاء بالمنظمة 22.7 مليون برميل يوميا، وهو ما يمثل 68.4% من الإنتاج اليومي للمنظمة. وتعد السعودية صاحبة أكبر حصة في الإنتاجي اليومي للنفط بين دول المنظمة والعالم في شهر أغسطس/آب 2016 بحجم إنتاج بلغ 10.6 ملايين برميل يوميا.
وتشير بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2015 إلى أن الدول العربية تستحوذ على 55.2% من الاحتياطي العالمي من النفط، ونسبة 27.5% من احتياطات العالم من الغاز الطبيعي، ويبلغ الإنتاج اليومي للدول العربية من النفط 22.9 مليون برميل، و584 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا.
كما تشير بيانات ميزان المدفوعات في مصر إلى وجود عجز في الميزان البترولي يقدر بنحو 4.6 مليارات دولار في نهاية العام المالي 2015-2016، وتشير أيضا بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى وجود فجوة سلبية بين الإنتاج والاستهلاك من النفط والغاز بشكل دائم.
وفي شهر يوليو/تموز 2015 بلغت هذه الفجوة 477 ألف طن، وفي يوليو/تموز 2016 زادت هذه الفجوة أكثر من الضعف حيث بلغت 1.1 مليون طن.
ويعاني الأردن من مشكلة مزمنة في توفير الطاقة، وتمثل تكلفة استيراد الطاقة رقما مهما في مقدرات الاقتصاد الأردني، حيث بلغت هذه التكلفة نسبة 17.3% من الناتج المحلي عام 2012، وبما يعادل 5.8 مليارات دولار، وانخفضت هذه التكلفة إلى 3.6 مليارات دولار في 2014 بسبب انخفاض أسعار النفط في السوق العالمية.
وحسب الأرقام الخاصة بعام 2014 من واقع إحصاءات وزارة الطاقة والثروة المعدنية، فإن الأردن ينتج 265.8 ألف طن مكافئ من الطاقة، بينما يستورد 8.4 ملايين طن مكافئ. ومن هنا نجد بونا شاسعا في إنتاج واستهلاك الطاقة في الأردن يتم تغطيته من خلال الاستيراد.
أما تركيا فوضع الطاقة فيها شديد التكلفة، إذ تعتمد على توفير 75% من احتياجاتها من الطاقة من الخارج، وبلغت تكلفة استيراد الوقود في تركيا مع نهاية عام 2015 نحو 38 مليار دولار.
وتعتبر روسيا المورد الرئيسي لاحتياجات تركيا من النفط والغاز، حيث توفر روسيا لتركيا 55% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي و30% من احتياجاتها من النفط. وتأتي إيران في المرتبة الثانية بعد روسيا في تغطية احتياجات تركيا من الطاقة، ثم العراق في المرتبة الثالثة.
مثّل عام 2010 نقلة نوعية في ثروة الغاز الطبيعي التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني باكتشافات أربع آبار مهمة على سواحل البحر المتوسط، وهي لفيتان وتنين وشمشون وقريش.
"
ثمة مجموعة من المآرب يسعى إليها الكيان الصهيوني من تصدير الغاز الطبيعي لكل من مصر والأردن وتركيا، على رأسها دمجه مع دول المنطقة بصورة طبيعية من خلال المصالح الاقتصادية المتبادلة
"
ووفق دراسة لمعهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، وصل إجمالي الاحتياطات للغاز الطبيعي التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني 1480 مليار متر مكعب، منها 800 مليار احتياطات مؤكدة، وحوالي 150 مليار متر مكعب احتمالات اليقين فيها 90%.
وتعتمد الإستراتيجيات الإسرائيلية فيما يتعلق بالغاز الطبيعي على أن يتم الاحتفاظ والسيطرة على 500 مليار متر مكعب لتوفير احتياجات الكيان الصهيوني لمدة 25 عاما، وأنه إذا احتفظ بكامل الاحتياطات من الغاز دون قيام الكيان الصهيوني بتصديره، فإن هذه الكميات تكفي احتياجاته لعام 2060.
وخلصت الدراسة إلى أن ثمة مكاسب سياسية من تصدير الغاز من قبل الكيان الصهيوني لا بد من تحقيقها، فضلا عن الوضع الاقتصادي الذي ستفرضه ضرورات زيادة الإيرادات من صادرات الغاز الطبيعي، لذلك توصي الدراسة بضرورة إنشاء صندوق سيادي لاستثمار العوائد المنتظرة من صادرات الغاز الطبيعي.
ثمة مجموعة من المآرب يسعى إليها الكيان الصهيوني من تصدير الغاز الطبيعي لكل من مصر والأردن وتركيا، على رأسها دمجه مع دول المنطقة بصورة طبيعية من خلال المصالح الاقتصادية المتبادلة، وبخاصة من خلال سلعة إستراتيجية مهمة كالطاقة، لا سيما وأن الدول الثلاث تصنف الآن على أنها مستورد صاف للطاقة.
وقد نصت الدراسة التي أشرنا إليها في السطور السابقة، على أن ثمة مصالح سياسية لا بد من تحقيقها في حالة تصدير الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني لهذه الدول.
وركزت الدراسة على ضرورة تصدير الغاز لهذه الدول الثلاث، وأن صادرات الغاز من الكيان الصهيوني لأوروبا لا تمثل مصلحة سياسية كبرى لإمكانية أن تستورد أوروبا الغاز الطبيعي من مصادر أخرى بسهولة.
وتمتلك كل من مصر وتركيا ورقة ضغط على الكيان الصهيوني في قضية تصدير الغاز، عبر خطوط الإمداد التي تمتلكها الدولتان، وكذلك الوضع بالنسبة للأردن، وفي حالة التفكير في تصدير الغاز عبر آلية أخرى غير أنابيب الإمداد فستكون تكلفة النقل أعلى وأصعب.
ورغم الحسابات السياسية والإستراتيجية للكيان الصهيوني في تصدير الغاز، فإن هناك بعدا اقتصاديا مهما يتمثل في استثمارات القطاع الخاص بالكيان الصهيوني، والذي عمل لسنوات في اكتشاف حقول الغاز، ويهدف لاسترداد استثماراته والعائد منها، وهو ما يدفعه للتصدير دون الخلل بالوفاء بتوفير الاحتياجات المحلية للكيان الصهيوني.
تُحتّم الاعتبارات الاقتصادية والسياسية التي تفرضها خريطة القوى في المنطقة على الدول الساعية لاستيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني أن تبحث عن مصادر أخرى، وتجعل من تصدير الغاز مشكلة لا حلا للكيان الصهيوني.
فتركيا لديها مصادرها البديلة المتمثلة في إيران وروسيا والعراق، وكذلك مصر والأردن فلديهما بدائل عربية مثل قطر بالنسبة للغاز، أو السعودية بالنسبة للنفط، ونحسب أن القرب الجغرافي يسمح بتخفيض تكلفة الاستيراد وسهولته بالنسبة للنفط، ويمكن البدء في تسهيل خطوط الإمداد للغاز الطبيعي من قطر لمصر وبالتالي الأردن.