رفع المجلس الفيدرالي الأميركي سعر الفائدة مساء الأربعاء بنسبة 0.75%، لمواجهة التضخم المتزايد في الاقتصاد خلال الأشهر الماضية، لكن علينا أن نستوعب أن الخطوة غير كافية لمواجهة التضخم، لأن أصل التضخم هذه المرة ليس نتيجة سياسة التيسير الكمي، بل من جانب العرض، متمثلا في ارتفاع تكاليف الطاقة على وجه التحديد.
ووفق أدوات السياسة النقدية الرأسمالية، فإن رفع سعر الفائدة يستخدم لمعالجة التضخم، ويعد مهمًا في الوضع الأميركي الحالي، ولكنه غير كاف، فعلى أميركا أن تصل لحل لمشكلة ارتفاع أسعار الطاقة، وغير ذلك فلن تُؤتي سياسة رفع سعر الفائدة أُكلها. ولذلك تتجه أميركا إلى مسارات مختلفة لرفع كميات المعروض من النفط ليقل سعره، سواء من خلال الشرق الأوسط أو فنزويلا، وعما قريب من خلال إيران، بعد التوصل لاتفاق نهائي بشأن برنامجها النووي.
المارد الذي يهدد اقتصاديات العالم الآن، هو التضخم الناتج من ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، واكتملت الحلقة بالسياسات النقدية لأميركا، من خلال رفع سعر الفائدة. ولا تبدو في الأفق إمكانية التوصل إلى حل لأزمة الحرب الروسية على أوكرانيا في الأجل القصير، وهو ما يعني استمرار تغذية التضخم من خلال ارتفاع التكاليف.
ففي أميركا بلغ التضخم 8.6% بنهاية مايو 2022، وهي النسبة الأعلى على مدار 40 عامًا، ولم تكن أوروبا في مأمن من موجة التضخم فبلغ بها بنهاية مايو أيضًا 8.1%، أما الدول الصاعدة والنامية، فبلغ فيها التضخم أرقاما مرتفعة، في تركيا تجاوز المعدل حاجز الـ 70%، وفي مصر عاود التضخم للارتفاع ليتجاوز 15%، وينتظر المزيد خلال الأشهر القادمة.
والمخاوف التي تنتاب اقتصاديات العالم من استمرار موجة التضخم، هي الانتقال إلى التضخم الركودي، أي أن يصاحب التضخم ركود بسبب صعوبة سير النشاط الاقتصادي في ظل معدلات التضخم المرتفعة، فتتوقف الأعمال، وتنتشر البطالة.
كما أن تعقيدات السياسة الدولية، والصراع الدائر حاليًا بين روسيا من جهة وكل من أوروبا وأميركا من جهة أخرى، تنبئ بعدة أمور منها، اتباع سياسات اقتصادية بعيدًا عن حرية السوق وآليات العرض والطلب، وكذلك النظر إلى المديين المتوسط والطويل. فالصراع الحالي، ليس صراعًا عابرًا، ولكنه صراع تكسير عظام، وما كان رجاء هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق من فراغ، فعلى ما يبدو لديه معلومات حول أهداف أميركا وأوروبا من هذه الحرب، لذلك طالب أوروبا وأميركا بإنهاء الحرب دون هزيمة مذلة لروسيا.
في الأزمات يجب ألا نسير في نفس السياسات الاقتصادية المتبعة في الوضع الطبيعي، فلو استمرت أوروبا في نفس السياسات المتبعة قبل أزمة الكساد الكبير 1929، لما خرج الاقتصاد العالمي من أزمته، فقد تخلت أوروبا وأميركا وكل الدول الرأسمالية عن الدور التقليدي للدولة، وتم اتباع نظام الدولة المتدخلة في النشاط الإنتاجي والخدمي، حسب نظرية كينز.
كما أن أميركا في الأزمة المالية العالمية عام 2008، قامت بتأميم شركة التأمين، وحافظت على استمرار البنوك، وضخت فيها أموالاً طائلة، وهو عكس الفكر الرأسمالي تمامًا، الذي يرى خروج شركة التأمين والبنوك المفلسة من السوق، وأن السوق سوف يصحح نفسه بنفسه دون تدخل الدولة.
ومن هنا وجب علينا أن نتجه لما يمكن أن يساعد في تبريد موجة التضخم العالية، وعدم وصولها لمواجهات التضخم الجامح – أي التضخم السريع والمتتالي- وبطبيعة الحال تعمل كل دولة وفق الأدوات التي تملكها، ويقترح هنا عدة أمور، منها:
انطلقت كافة الأنشطة الاقتصادية في العديد من اقتصاديات العالم، لتترك العنان للقطاع الخاص في تحديد السعر، وكذلك تحديد هوامش الربح، فأصبحنا أمام قرارات تضر بشكل كبير بأصحاب الدخول الثابتة والطبقة الفقيرة، وبخاصة في ظل الأزمات الاقتصادية.
وكما نعلم فإن الدول النامية والصاعدة، لا تمتلك برامج جيدة في مجال الحماية الاجتماعية، وإذا ما تركنا موجات التضخم لتأخذ مسارها في ظل استمرار ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، فسنكون أمام كارثة إنسانية في الدول الفقيرة والأشد فقرًا، خاصة أنها تعتمد بشكل رئيس على استيراد الغذاء والطاقة.
ومن المنطق أن يتم تحديد هوامش الربح بما لا يزيد عن 5% للقطاع الخاص، وأن تكون هوامش الربح في السلع والخدمات الحكومية أقل من ذلك وبما لا يزيد عن 2%. ولا تقتصر عملية تخفيض عوائد النشاط الاقتصادي على المستثمرين أو المنتجين أو الموزعين فقط، ولكن تتجه لكل ما من شأنه تخفيض تكلفة الإنتاج بشكل خاص، وتخفيض الأسعار بشكل عام،
فيتم مثلًا تثبيت إيجار المساكن، أو تحريكها بهامش بسيط، ويتم تخفيض قيمة الضرائب بنسب ملموسة على كافة السلع والخدمات، وتبني سياسة لخفض الرواتب، خاصة لأصحاب الدخول المرتفعة، وعلى وجه خاص في الحكومة والقطاع العام.
إن مخاوف التضخم الركودي دفعت بوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا لمطالبة العمال بالقبول بأجور منخفضة، وإلا فعليهم مواجهة هذا النوع من التضخم، الذي سيفقدون فيه وظائفهم. وواقع بريطانيا مماثل لمعظم دول العالم.
تعد مكافحة الفساد أداة مهمة بجوار التسعير لمكافحة التضخم، خاصة في الدول النامية والأقل نموًا، التي ترتفع فيها معدلات الفساد بشكل كبير، وللفساد صور كبيرة، أشهرها على الصعيد الحكومي، تربح المسؤولين الكبار من وظائفهم، وتحقيق ثروات كبيرة، لكنْ هناك صور أشد خطورة، تتمثل في إهدار الموارد، وتبني مشروعات غير ضرورية، تعتمد على الاستدانة الخارجية أو المحلية، ولا تدر عوائد يمكنها سداد تبعات الديون.
لعل هذا من أهم أبواب مواجهة التضخم في الدول النامية، حيث تعتمد الحكومات بهذه الدول على استيراد جزء كبير من احتياجاتها، بل وكماليتها من الخارج، في ظل موجة التضخم العالية التي تضرب الاقتصاد العالمي، فعلى حكومات تلك الدول، أن توقف كافة عمليات الاستيراد للسيارات الخاصة بكبار المسؤولين والمديرين بالحكومة والقطاع العام، وكذلك وقف استيراد أثاث المكاتب، وكل ما هو غير ضرورة، والتركيز على شراء المنتجات المحلية. ولم يعد مقبولًا وجود فوارق كبيرة في الدخول بين العاملين في القطاع الخاص أو العام، وهي فرصة للدول النامية والصاعدة لإصلاح هذا الخلل المزمن؟
لم تعد الحماية الاجتماعية نوعا من الترف لمواطني الدول النامية والصاعدة، لكنها ضرورية، فمن المتوقع بنسبة عالية، أن تؤدي موجة التضخم الحالية والمرتقبة خلال الأشهر القادمة، للإيقاع بشرائح جديدة من الأفراد في براثن الفقر، كما أنها ستجعل حياة الفقراء أشد صعوبة. ويتطلب ذلك تبني برامج اجتماعية، لحماية الفقراء، والتخلي عن أجندة المؤسسات الدولية، بأن تزيد الحكومات من مخصصات دعم السلع الأساسية التي لا يستغني عنها الفقراء والطبقة المتوسطة، وهنا يمكننا الإشارة إلى ضرورة دور نشط للتعاونيات، والتوسع فيها بين الأحياء والأقاليم المختلفة داخل كل دولة، بما يساعد على تخفيض أسعار السلع.
المقترحات السابقة ضرورية وملحة للدول كافة في كل وقت، وإن كان موضوع التسعير يُعد استثناءً يتواكب مع طبيعة الأزمة، ويمكن التخلي عنه تدريجيًا، بما لا يؤدي لخلل في الأسواق، وقد يرسخ لعقد جديد يمكن في ضوئه التعرف إلى شرائح مناسبة للربح.