يعكس الواقع في كل من أميركا وبريطانيا وجهتي نظر أحزاب اليمين واليسار، وتبلورت التوجهات الاقتصادية لكلا التوجهين بالحملات الانتخابية، وبدأ ذلك في موقفهما من التوظيف السياسي للضرائب، وقضية الضرائب من أبرز ملفات الاقتصاد السياسي، وللبريطانيين مقولة مشهورة في هذا الصدد وهي "لا ضرائب بدون تمثيل برلماني" حتى تمكن محاسبة الحكومات على كيفية التصرف في العوائد الضريبية، فهي ليست أموالا بلا حساب.
وتعد مسألة الضرائب شديدة الحساسية في أميركا والغرب، نظرًا لما تتمتع به من شفافية، على مستوى الأفراد والحكومات، ولذلك فأي وعد انتخابي كفيل بنجاح أو سقوط المرشح أو الحزب، لأنها تمس حياة الناس بشكل مباشر، سواء بما يدفعونه من ضرائب، أو على ما يحصلون عليه من خدمات نظير الضرائب التي يدفعونها.
وإذا كان اليمين في أميركا من خلال الحزب الجمهوري قد وعد الأميركيين بتخفيضات في الضرائب للأفراد والشركات، فإن حزب العمال المحسوب على اليسار يعد بفرض ضرائب على مستثمري البورصة لصالح الفقراء، بزعم العدالة الاجتماعية.
ورغم عدم وجود أرض مشتركة لمنافسة الحزبين، حيث إن كلاً منهما في دولة، إلا أن التوجه نحو الضرائب يبلور الخلفيات الأيديولوجية، فاليمين الذي يراهن على تحقيق مكاسب اقتصادية واجتماعية في أميركا من خلال خفض الضرائب، يراهن على سياسة "تساقط ثمار النمو"، بينما يراهن اليسار في بريطانيا على تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع الثروة.
لكن الملاحظ أن العامل المشترك بين توجهات اليمين واليسار، هو كيفية التصرف مع ضرائب الأغنياء، فبينما اليمين يرى منحهم مزيدا من الإعفاءات، تجد اليسار يتجه عكس ذلك تمامًا ويريد تحميلهم ضرائب أكبر مما هي عليه الآن.
الضرائب هي إحدى الأدوات المهمة والمعتبرة في السياسة المالية والاقتصادية بالنظام الرأسمالي، وبها يتحقق أكثر من هدف، فقد يكون الهدف من زيادة أو خفض الضرائب الوصول إلى مستهدفات اقتصادية أو اجتماعية معينة، فحينما تزيد معدلات السيولة في يد الأفراد يتجه صانع السياسة الاقتصادية إلى رفع معدلات الضرائب من أجل تخفيض معدلات التضخم من خلال تقليص السيولة بتحصيل الضرائب.
وقد يكون الهدف تشجيع الصناعات المحلية ومواجهة الواردات، فتعفى الصناعات المحلية من بعض الضرائب أو تخفض قيمتها، بينما تُفرض جمارك عالية على الواردات، كما يتجه صانع السياسة الاقتصادية إلى توظيف آلية الضرائب لتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية سواء بزيادة الاستثمارات بشكل عام، أو توجيه الاستثمارات لقطاعات معينة يحتاج إليها الاقتصاد القومي، وفي هذه الحالة تعتبر الضريبة إحدى أدوات التخطيط التأشيري.
وقد يكون هدف الضريبة اجتماعيا بتحقيق عدالة توزيع الثروة، فتفرض الضرائب التصاعدية ليدفع الأغنياء معدلات أعلى على دخولهم من أجل أن تمول العوائد الضريبية احتياجات الفقراء من تعليم وصحة وبنية أساسية، أو برامج رعاية اجتماعية.
إلا أن الدول النامية لها خصوصية أخرى تجاه الضرائب، حيث تتسم سياستها الضريبية بالجباية من أجل تمويل الموازنة العامة، لذلك قد لا تلتفت إلى الأهداف الأخرى التي ذكرناها، وعادة ما تغيب المسألة البرلمانية للحكومات على الحصيلة الضريبية، ولا يعول الأفراد على السياسات الضريبية في عملية التصويت الانتخابي كما هو في الغرب أو أميركا.
ويظل صانع السياسة الاقتصادية في توازنات مستمرة للاستفادة من إجراء زيادة أو خفض الضريبة، وثمة وجهات نظر تجاه توظيف الضرائب في الأهداف التي ذكرناها.
وتظهر هذه التوازنات من وجهة نظر صانع السياسة محل توظيف سياسي للضرائب، ففي الانتخابات الأميركية التي فاز بها دونالد ترامب، تم وعد المواطنين بتخفيض الضرائب لتشجع المستثمرين على خلق فرص عمل جديدة، ولكن بعد مرور أكثر من 100 يوم على تولى ترامب السلطة، لم تتخذ بعد الإجراءات العملية لتطبيق وعد تخفيض الضرائب.
كما أن حزب العمل البريطاني يغازل المواطنين بعزمه تطبيق ما يعرف بضرائب "روبن هود" بأخذ الضرائب من مستثمري البورصة الأغنياء، وإعادة حصيلتها إلى الفقراء في شكل خدمات وبرامج للرعاية الاجتماعية، وتحسين ظروف الفقراء الاقتصادية والاجتماعية. ومسمى ضريبة الأسهم التي يقترحها الحزب بمسمى "روبن هود" يعود لتلك الشخصية القصصية في الأدب الإنكليزي لرجل عاش في الغابات وكان يهاجم الأغنياء ويحصل على بعض أموالهم ويعطيها للفقراء، ولذلك حظي بقبول من قبل العامة في عصره.
لا تعد السياسة الاقتصادية لترامب وحزب الجمهوريين جديدة على أميركا، فقد سبقه ريغان الذي ينتمي لنفس الحزب والذي قاد أميركا على مدار سنوات عقد الثمانينيات لليبرالية الجديدة، والخروج من عباءة الدولة المتدخلة.
لكن سياسة ترامب سيكون لها مردود سلبي بشكل كبير على المديونية العامة لأميركا، حيث يتوقع أن تزيد الديون الأميركية بنحو 5 تريليونات دولار بنهاية ولاية ترامب، إذا نفذ ما يتعلق بسياسته المالية، وإن حصل فيها الأفراد على بعض المزايا، خاصة أصحاب الدخول المتوسطة، إلا أنها في النهاية ستحمل الأجيال القادمة بعبء الدين العام، لكن في كل الأحوال سيكون الأغنياء هم الأكثر استفادة وثراء من سياسة ترامب.
والجدير بالذكر أن معدل الضرائب على الدخل في المتوسط بأميركا بحدود 25%، وقد يساعد الإعفاء الضريبي الموعود في استمرار حالة الإنعاش الاقتصادي، إذا وجهت الطبقة المتوسطة فائض دخلها من الإعفاء للاستهلاك وليس للادخار، وكذلك فعل الأغنياء بتوجيه فائض أموالهم بعد الإعفاء الضريبي للاستثمار، لكن إذا حدث العكس وتم توجيه هذه الأموال لخارج أميركا، عبر المضاربات في بورصات الدول الصاعدة أو النامية فستكون النتيجة شديدة السلبية، وتفقد السياسة الضريبية الهدف منها.
مازالت الخطوة التي اتخذتها بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي تلقي بظلال من الضبابية حول مستقبل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية هناك، ولذلك استغل حزب العمال الوضع لتقليص الفجوة التصويتية في استطلاعات الرأي التي تذهب لصالح حزب المحافظين.
وتركز الحملة الانتخابية لحزب العمال على أن توجه الحزب الضريبي بفرض ضريبة "روبن هود" سيعود بحصيلة ضريبية تقدر بنحو 4.5 مليارات جنيه استرليني من الدخل، ستكون في صالح الشرائح الدنيا بزيادة الحماية الاجتماعية والبرامج الاقتصادية التي توجه لهذه الشريحة.
لكن حزب المحافظين في بريطانيا يتبنى توجهًا مخالفًا في سياسته الضريبية بإعلانه عزمه على تخفيض ضريبة الشركات إلى 15% بدلًا من 20%، وهي سياسة يبتغى منها مواجهة تداعيات الخروج من الاتحاد الأوروبي.
كما أن التوجه الاقتصادي لحزب المحافظين، معروف ويصب في صالح الأغنياء، وذلك منذ عهد تاتشر، والتي كانت من أشد مؤيدي سياسة اللبرالية الجديدة، وكانت لها مقولة مشهورة "أتيت ليزداد الأغنياء غنى"، وهي مقولة تعكس تبني سياسة تنموية تسمى "تساقط ثمار النمو" والتي تزعم بأن الأغنياء إذا ازدادوا غنى سيوجهون فائض ثرواتهم للاستثمار، وهذا يخلق فرص عمل جديدة للفقراء، الذين يعملون في مشروعات الأغنياء.
وحتى الآن تشير استطلاعات الرأي لتقدم حزب المحافظين، وإذا ما صدقت نتائج التوقعات فسيكون يمين أميركا ويمين بريطانيا قد انحازا للأغنياء، وإن كان هذا التحيز يرجع لقناعات أيديولوجية، بغض النظر عن واقع الآثار الاقتصادية والاجتماعية لذلك في الأجلين المتوسط والطويل.