لا يمكن أن نغفل عاملًا مهمًا ونحن ننظر للدولتين في صناعة السياسة الاقتصادية، ألا وهو الديمقراطية، وشعور صناع ومتخذي القرار بالدور الرقابي الذي يؤديه البرلمان.
ثمة فوارق كثيرة تجعل المقارنة بين ألمانيا والسعودية غير مقبولة، لكون هذه الفوارق كلها لصالح ألمانيا، ولا يجمع بين البلدين، إلا أنهما أعضاء في مجموعة العشرين، التي تضم أكبر 20 اقتصادا على مستوى العالم. ولكن ما دعا للمقارنة هو تصريح وزير المالية الألماني أولاف شولتس، بأنه يستبعد اللجوء للدين العام من أجل إنعاش اقتصاد بلاده الذي يعاني التباطؤ، حيث قدر معدل النمو الاقتصادي هناك بنحو 0.5% خلال العام 2016.
ليس هذا فحسب، بل إن حكومة ميركل تواجه مطالبات من صندوق النقد الدولي وشركاء أوربيين، بضرورة العمل على إنعاش الاقتصاد الأكبر في أوربا، ولكن شولتش، يرى أن اقتصاد بلاده لا يعاني الركود، ولكنه يتباطأ، وفي الوقت نفسه لا يقبل وصفة تخفيض الضرائب على الشركات، أو إجراء ما يسمى بالإصلاحات الضريبية، ويذهب شولتش إلى أن ما تعانيه بلاده من تباطؤ هو نتيجة ما تتعرض له التجارة الدولية من مشكلات، وكذلك تداعيات عزم بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوربي من دون ترتيب.
والحل من وجهة نظر شولتش هو الإعفاء الضريبي للأسر، وزيادة الإنفاق على المعاشات، والرفاه الاجتماعي والاستثمار في الرقمنة، والبنية الأساسية، ما سيساعد على إبقاء الاقتصاد في مسار النمو.
على العكس من ذلك تمامًا كان الوضع في السعودية يتجه على مستوى الحكومة بتبني سياسة توسعية في الدين العام، بشقيه الداخلي والخارجي، باقتراض نحو 34 مليار دولار (131 مليار ريال سعودي)، لتغطية عجز الموازنة في العام 2019.
على أن تكون حصة الديون الخارجية من تغطية العجز حوالي 45% وذلك وفق بيانات وزارة المالية السعودية. ولا تتوقف خطط التوسع في الدين على الموازنة العامة فقط بل تمتد إلى الشركات العامة، حيث طرحت شركة أرامكو سندات دولية في أبريل/نيسان الماضي بحوالي 10 مليارات دولار، وكان من مدعاة تفاخر المسؤولين السعوديين أن اكتتاب أرامكو تمت تغطيته بنحو 5 مرات.
لا شك في أن اقتصاد ألمانيا أقوى بكثير مقارنة بالاقتصاد السعودي، ويظهر ذلك على سبيل المثال لا الحصر في الفرق بين الناتج المحلي للبلدين، فألمانيا بلغ ناتجها المحلي الإجمالي في العام 2017 نحو 3.67 تريليون دولار، بينما السعودية يبلغ ناتجها المحلي نحو 686 مليار دولار في العام نفسه، أي أن ناتج ألمانيا يبلغ نحو ما يزيد عن 5 أضعاف الناتج السعودي.
ومن السهل أن تصدر ألمانيا سندات محلية أو دولية، وسوف يتم تغطيتها بسهولة نظرًا لقوة اقتصادها، ولكن التمويل بالديون له مشكلاته المتعددة، ويحمل الموازنة العامة مشكلات في الأجلين القصير والطويل، حيث يؤثر على مخصصات الإنفاق بالموازنة العامة، فضلًا عن أنه حرمان للأجيال القادمة من التمتع بثروات بلادها.
بينما السعودية تتوجه للاقتراض العام، ولمؤسساتها العامة، في الوقت نفسه الذي تمتلك فيه احتياطيا كبيرا من النقد الأجنبي بلغ في العام 2017 نحو 509 مليارات دولار، وأدى التحسن الحاصل في أسعار النفط بالسوق الدولية لتمتعها بعوائد أفضل من سنوات ما بعد أزمة منتصف 2014.
بينما ذهب وزير المالية الألماني إلى أن الخروج من تباطؤ الاقتصاد في بلاده، يأتي من خلال تنشيط الطلب المحلي بتحسين أوضاع أصحاب المعاشات، والإعفاء الضريبي للأسر، والرفاه الاجتماعي، والاستثمار في الرقمنة والبنية الأساسية، تتجه السعودية لعكس ذلك تمامًا، حيث تتبع إجراءات تقشفية، تحد من دخول الأفراد، وترفع تكاليف المعيشة عليهم.
بل إن السياسة المالية الجديدة للسعودية هي مزيد من الضرائب، مثل ضريبة القيمة المضافة، ورفع أسعار السلع والخدمات العامة. وفي الوقت الذي تعتني فيه ألمانيا بالاستثمار في الرقمنة والبنية الأساسية، نجد أن معظم مشروعات السعودية تتستفيد منها الشركات الأجنبية بشكل أكبر من الشركات المحلية، كما هو حال كافة مشروعات رؤية 2030، أو مشروع نيوم.
لم تؤثر مطالبات الشركاء الأوربيين ولا صندوق النقد الدولي على صناعة السياسة المالية لألمانيا، بينما الوضع في السعودية مختلف تمامًا منذ عام 2015، حيث أصبحت توصيات تقرير صندوق النقد الدولي هي عماد السياسة الاقتصادية في السعودية.
والملفت للنظر أيضًا أن وزير المالية الألماني وضع المتغيرات الدولية والمحلية في سياقها الصحيح، بحيث لا تطغى أي منهما على الأخرى، بينما الأوضاع في السعودية لا تعبأ بالمتغيرات الداخلية، فهي تعلم علم اليقين أن قطاعها الخاص هش، ولا يمكن الاعتماد عليه بشكل كبير في تحمل تبعات تنمية مستدمة، ومع ذلك تصوغ سياساتها الاقتصادية بالاعتماد على هذا القطاع.
يبقى التقويم الصحيح للاقتصاد بمردوده على حياة الناس وتمتعهم بمستوى معيشة كريمة، ففي ألمانيا يقبل وزير المالية بمعدل نمو 0.5%، وهو في الوقت نفسه حريص على تحسين أوضاع أصحاب المعاشات، والرفاه الاجتماعي. بينما الاقتصاد السعودي قد يستهدف معدل 3.5% لنمو اقتصاده، ولكنه لا ينعكس بشكل إيجابي على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع، فمعدلات البطالة بالسعودية بمعدل 12.9% للمواطنين، ومعدل التضخم بحدود 2.47%، وعدد طالبي دعم صندوق المواطن بنحو 63% من السكان.
لا يمكن أن نغفل عاملًا مهمًا ونحن ننظر للدولتين في صناعة السياسة الاقتصادية، ألا وهو الديمقراطية، وشعور صناع ومتخذي القرار بالدور الرقابي الذي يؤديه البرلمان والمجتمع المدني، ففي ألمانيا ثمة رقابة ومحاسبة لا تحتاج إلى برهان، بينما تغيب الرقابة والمحاسبة في السعودية، سواء من مجلس الشورى أو المجتمع المدني.