محطات مختلفة مرت بها العلاقات الاقتصادية العربية الأوروبية، لكن جوهرها ثابت لم يتغير، إذ تحظى أوروبا بعوائد إيجابية بشكل دائم مع الدول العربية، ويرجع ذلك لأسباب، منها ما يتعلق بكون الدول الأوروبية تتعامل من خلال كيان واحد، وهو الاتحاد الأوروبي، وكذلك كون أوروبا منتجة للتكنولوجيا، وتعتبر المنطقة مجرد سوق لمنتجاتها.
وحسب التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2018، فإن الميزان التجاري في العام 2017، كان في صالح الاتحاد الأوروبي، فقد بلغت الصادرات العربية للاتحاد نحو 105 مليارات دولار، أي 11% من إجمالي الصادرات العربية البالغة 955.5 مليار دولار، بينما بلغت الواردات العربية من الاتحاد 221.4 مليار دولار، أي 27.4% من إجمالي الواردات العربية البالغة 808.1 مليارات دولار.
أي أن الاتحاد الأوروبي يحقق فائضًا بنحو 116 مليار دولار، رغم أن وارداته العربية يغلب عليها النفط، فطبيعة القيمة المضافة للصادرات الأوروبية، جعلتها أكثر من ضعف وراداتها من دول المنطقة.
ولا يعد أداء العلاقات التجارية بين الجانبين استثنائيًا، بل هو الوضع الطبيعي خلال العقود الماضية، رغم مضي أكثر من عقدين من الزمن على توقيع دول عربية (الأردن، تونس، المغرب، الجزائر، لبنان، مصر) لاتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي، بل كانت الاتفاقيات في صالح الاتحاد، الذي رفض إبرام الاتفاقيات مع كيان يمثل العرب، أو دخول الجامعة العربية في هذه المساحة.
ورغم أن الترويج لاتفاقيات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي اكتسب طابعًا تنمويًا، وسيساعد على نقل الاستثمارات والتكنولوجيا من الاتحاد للدول العربية التي وقعت الاتفاقيات، إلا أن الواقع وبعد مرور هذه السنوات، لم تبرح اقتصاديات تلك الدول منطقة الدول النامية، بل زادت تبعيتها الاقتصادية للخارج، ولم تتطور الصناعات العربية أو الزراعة، كما لم تؤد تلك الاتفاقيات لتخفيف الواقع الاجتماعي السلبي بالدول العربية، حيث بقيت البطالة كما هي عند معدلات مرتفعة بالدول التي وقعت اتفاقيات شراكة مع الاتحاد.
وشهدت مدينة شرم الشيخ يومي 24 و25 فبراير الماضي، عقد قمة عربية أوروبية، اكتسبت غطاءً سياسيًا في أغلب ملفاتها، وإن كان الاقتصاد حاضرًا، حيث نقلت "رويترز" عن فيدريكا موغريني مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي قولها للصحافيين "هذه ليست قمة حول الهجرة... آمل أن تتمكن القمة من التركيز على شراكتنا فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية، وعملنا المشترك، على سبيل المثال، فيما يخص فلسطين... إحياء حل الدولتين".
يغلب على الاستثمارات الأوروبية بالمنطقة العربية التركيز على قطاع النفط والغاز الطبيعي، خاصة استثمارات إيطاليا وإنكلترا وإسبانيا في قطاع النفط، وتمثل شركات هذه الدول مع أميركا حالة احتكار شبه كامل للاستثمار في النفط العربي.
ولعل ما رُصد مؤخرا عن تصرف شركة إيني الإيطالية بشأن ملكية حقل ظهر المصري للغاز يعكس هذه الحالة غير الطبيعية، فعمليات بيع إيني لجزء من حصصتها في الحقل لروسيا وقطر والإمارات، أعطت انطباعًا وكأن الحقل ملكية إيطالية لا مصرية، حدث ذلك غير مرة في حصص ملكية الشركات التي تدير معامل تسييل الغاز في دمياط وأدكو بشمال مصر. ولا يتوقف الأمر على مصر حيث يتكرر في ليبيا والجزائر والعراق ودول الخليج.
وتذهب التقديرات إلى أن الاستثمارات التراكمية للاتحاد الأوروبي في الدول العربية بلغت 240 مليار دولار حتى 2016، منها 123 مليار دولار في الخليج، وهو ما يؤكد تركز هذه الاستثمارات في مجال النفط والغاز. وإذا ما وجدت هذه الاستثمارات في مجالات أخرى، فهي عادة ما تكون مشروعات تستهدف السوق المحلي مثل الأدوية والسيارات، وأحيانا صناعة الأغذية.
العلاقات الاقتصادية بشكل خاص والسياسية والثقافية بشكل عام، لم تنقطع بين الدول العربية وأوروبا، ومع خروج الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي، لم تعمل الدول العربية على تطوير علاقاتها الاقتصادية ليكون لها كيان مماثل، فيمكنها ذلك من شروط أفضل في كافة العلاقات والاتفاقيات مع أوروبا أو غيرها، لذلك بقيت الدول العربية لا تجمعها مصلحة اقتصادية واحدة.
وكذلك هيكل اقتصاديات الدول العربية منذ عقود لم يتغير من حيث إنتاج المواد الأولية أو الصناعات التقليدية، التي لا تمثل احتياجًا استراتيجيًا للدول الأوروبية، باستثناء النفط، الذي ضمنت أوروبا تدفقه إليها من خلال الأدوات الخشنة والناعمة. أما الدول العربية فهي في حاجة ماسة لوارداتها من أوروبا، خاصة العدد والآلات، ومستلزمات الإنتاج، والتكنولوجيا.
وتغيب الإرادة السياسية العربية نحو تبني مشروع تنموي، يمكن أن يغير من أدائها الاقتصادي والاجتماعي، وينهض بها تعليميًا، حتى يمكنها إيجاد علاقة متوازنة مع الدول الأوروبية، ولا تعدو المؤتمرات التي شهدتها العلاقات العربية الأوروبية، وآخرها مؤتمر شرم الشيخ من أن تكون إحدى أدوات التوظيف السياسي لصالح بعض الحكومات العربية، لإظهارها إعلاميًا، على أنها دولة مهمة، تحظى بقبول الدول الأوروبية لحضور فعاليات مشتركة على أرضها.
كما تفتقد الدول العربية البنية اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، ومن بينها الأوروبية، فغالبية الدول العربية أصبحت تتبنى سياسات اقتصادية تحررية من حيث سعر الفائدة والصرف وكذا أسعار الوقود، بما يجعله في حدود الأسعار العالمية، مما يجعل بعض الدول العربية التي كانت تحظى بهذه المزايا تفتقدها، وتفقد معها ميزة جذب الاستثمارات الأجنبية.
كذلك الأيدي العاملة في الدول العربية لا تتمتع بالمهارات المطلوبة، على الرغم من تمتعها بانخفاض أجرها في بعض الدول، ويرجع ذلك بشكل رئيس لانخفاض مستوى التعليم، وعدم الاهتمام بالتدريب لتطوير مهارات القوى العاملة.
أيضًا فإن الدول العربية منذ تبنيها سياسات الإصلاح الاقتصادي في مطلع تسعينيات القرن العشرين وحتى الآن لم تنجح في أن تمثل حالة نجاح في التعامل مع الاقتصاد العالمي، بحيث تكون منطقة مؤثرة في دوائر الإنتاج أو التصدير أو الخدمات على الصعيد العالمي، كما هو الحال مع الدول الصاعدة، وبخاصة مع دول بدأت متأخرة في منطقة الشرق الأوسط مثل تركيا.
ستظل أوروبا تتعامل مع المنطقة العربية على الصعيد الاقتصادي في ظل الاعتبارات الثابتة منذ عقود، وهي كونها مصدرًا للسلع الأولية والصناعات التقليدية، ومجرد سوق كبير يقترب من 400 مليون نسمة.
كما أن الوضع السياسي والأمني غير المستقر بالمنطقة العربية سيجعلها دومًا مستبعدة من خريطة الاستثمارات الأوروبية المباشرة بالقطاعات الإنتاجية بمجالات الصناعة والزراعة، أو حتى الخدمات المالية والنقل وغيرها.
ولا ينبغي أن نهمل ما تمر به أوروبا من تقلبات اقتصادية، منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وكذلك خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما سينتج عنه من مشكلات اقتصادية، ستجعل أوروبا تنصرف إلى شأنها الداخلي، ولا تفكر بشكل كبير في النهوض بالمنطقة العربية، إلا في حدود.