تشهد أسعار النفط في السوق الدولية، تذبذبًا واضحًا، على مدار الشهور القليلة الماضية، مما يجعل من الصعب جدًا على المتابع أو المحلل أن يتنبأ باتجاهات السوق، كما تجعل صانع السياسة الاقتصادية والمالية في حيرة، سواء في الدول المنتجة أو المستهلكة.
ولا يزال ارتفاع أسعار النفط، أحد منغصات التضخم في جميع دول العالم، على الرغم من الحديث عن توقعات الركود، وتراجع معدلات النمو بالاقتصاد العالمي، وكذلك الأوضاع الاقتصادية المتراجعة في الصين، إلا أن استمرار سعر برميل النفط أعلى من 90 دولاراً للبرميل من خام برنت، وأعلى من 85 دولاراً للخام الأميركي، غير مؤاتٍ للعديد من الأوضاع المالية للدول المستهلكة.
لا يختلف أحد على أنّ من أهم أسباب ارتفاع أسعار النفط في السوق الدولية، الحرب الروسية على أوكرانيا، ولا تلوح في الأفق حلول سياسية أو حسم عسكري لهذه الحرب الدائرة، مما يجعل من استمرار ارتفاع أسعار النفط أمرًا مؤكدًا.
وفي ضوء استمرار الحرب وفق قواعد الأسلحة التقليدية، فالاستراتيجية المعتمدة لدى أميركا وأوروبا، هي استنزاف روسيا اقتصاديًا من خلال هذه الحرب، حتى لا تهنأ بعوائد النفط المرتفعة، ويكون ذلك أحد أسباب الاحتجاجات الداخلية للضغط على قرار بوتين بإنهاء الحرب.
وإن كانت ثمة تصريحات هنا وهناك باستبعاد اللجوء للأسلحة النووية، إلا أن الاحتمال وارد وإن كانت إمكانية حدوثه ضعيفة جدًا، ولا قدر الله إذا دخل هذا السيناريو حيز التنفيذ، ولو في إطار الاستخدام التكتيكي للأسلحة النووية، فإننا سنكون أمام حسابات أخرى، ليس فقط على صعيد أسعار النفط، ولكن على صعيد النظام الاقتصادي العالمي ككل.
ووقتها لن نكون بصدد الحديث عن الأفق الزمني لأزمة النفط، والرهانات عليه، بل سيكون الحديث عن رهانات حول عودة الحياة. وبالتالي فأزمة ارتفاع أسعار النفط، واستمرار أزمة الطاقة مستمرة إلى أجل غير مسمى، حتى تضع الحرب أوزارها، فالنفط أحد الأوراق المهمة في إدارة الصراع.
لا يمكن أن نضع أصحاب الرهان على الزمن في أزمة الطاقة في سلة واحدة، فهناك منتجون، ومستهلكون، ومضاربون، ومستفيدون من الأزمة، ممن يصفون أنفسهم بأنهم على الحياد من أزمة الصراع بين روسيا من جهة وأوروبا وأميركا من جهة أخرى، ويمكننا الإشارة إلى هؤلاء المراهنين، وطبيعة أدوارهم في هذا الرهان.
تراهن روسيا في إدارة صراعها مع أوروبا على وجه التحديد على قدوم موسم الشتاء، حيث تزيد معدلات استهلاك الطاقة من أجل التدفئة، وهي في نفس الوقت، تمارس ضغوطها هنا وهناك، لناحية طبيعة تدفق النفط والغاز إلى أوروبا.
وإلى الآن، لم يتوفر بديل جاهز للنفط والغاز الروسيين، بسبب استمرار تحالف "أوبك +"، ودوره في عدم زيادة المعروض من النفط للحفاظ على الأسعار عند سقفها المرتفع، والذي تراه أوروبا وأميركا سببًا مباشرًا لتأجج معدلات التضخم لديهما.
سيكشف الزمن لنا هذه النتيجة، لكنّ أوروبا العجوز، ليست غائبة عن هذا الرهان في إطار ترتيباتها الجماعية لمواجهة الأزمة.
لكن في كلّ الأحوال، لا يمكن اعتبار روسيا رابحة من هذه الأزمة، في ظل استمرار حربها على أوكرانيا، فهي تخسر أضعاف عوائدها من النفط والغاز الطبيعي بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.
على مدار سنين عجاف في سوق النفط، من منتصف 2014 وحتى منتصف عام 2021، عانت الدول المنتجة للنفط من أزمات مالية، أدت إلى بروز عجزها المالي، ولجوء معظمها للاستدانة الخارجية والمحلية، ولكن مع النصف الثاني من عام 2021، ودخول أزمة حرب روسيا على أوكرانيا في أواخر فبراير 2022، عادت التدفقات الدولارية من بيع النفط، لتحيي موازنات الدول النفطية.
ولكن أكثر الدول النفطية استفادة من طفرة الأسعار هذه المرة، تلك الدول التي لا تخوض حروباً بشكل مباشر، مثل بعض الدول النفطية العربية، ومن صالح هذه الدول أن يمتد الأفق الزمني لأزمة الطاقة.
وبالفعل انعكس تدفق البترودولار على تحسن الأوضاع المالية للدول النفطية، العربية وغير العربية، حيث توقفت عمليات إصدار سندات الاقتراض بشكل ملحوظ من قبل الدول النفطية، كما عادت أرصدتها من احتياطيات النقد الأجنبي للارتفاع.
استراتيجية النفط الرخيص، سبقت بها إيران منذ فُرضت عليها العقوبات الاقتصادية في عام 2012، وكان هناك مستفيدون من دول تعتمد على الاستهلاك العالي من النفط، وبخاصة الصين والهند وتركيا وكوريا الجنوبية، وإن كان ترامب بعد عقوبات 2018، قد أمهل هذه الدول 6 أشهر للخروج من هذه الممارسات، وإلا طاولتها العقوبات الأميركية، فانصاع الجميع.
ولكن هذه المرة، تبرز كلّ من الصين والهند، في الاستفادة بشكل كبير من الحصول على النفط الرخيص من روسيا، حيث قدرات التخفيضات، بنحو 30 دولاراً لكلّ برميل عن السعر السائد في السوق، ومن صالح كلّ من الصين والهند استمرار الأزمة، للاستفادة من ميزة النفط الرخيص. ولم يعد الأمر مقتصراً على مجرد حصول هذه الدول على النفط الرخيص لاستخداماتها المحلية، ولكن وسائل إعلام أشارت إلى أن الهند تقوم بدور التاجر في النفط الروسي، عبر حصولها على النفط الرخيص، ثم تعيد بيعه في السوق الدولية، وفق الأسعار السائدة.
وقد لا تكون أميركا في موقف يسمح لها بممارسة نفس دور ترامب، بتهديد الدول التي تحصل على النفط الرخيص، بسبب شح العرض، واختلاف ظروف السوق الدولية للنفط، وتأثرها بشكل كبير بسبب حرب روسيا على أوكرانيا.
منذ أغسطس/آب 2021 لجأ الرئيس الأميركي جو بايدن إلى التلويح بورقة استخدام المخزونات الاستراتيجية، لتخفيف وطأة قرارات "أوبك +"، التي حدت زيادة كميات الإنتاج، وطالب الصين والهند وكوريا الجنوبية، بضخ كميات متفق عليها من مخزوناتها الاستراتيجية، وأن تقوم أميركا بنفس الشيء، ولكن ذلك كان قبل أزمة حرب روسيا على أوكرانيا.
أما هذه المرة، فالجميع يلجأ إلى المخزونات الاستراتيجية، ويتم انتهاز بعض الفرص عند هبوط الأسعار لتعويض المسحوبات من تلك المخزونات جزئيًا. ولكن الدول التي لديها مخزونات استراتيجية، تتمنى انتهاء هذه الحرب، وتقليص أمد أزمة الطاقة، حتى يمكنها العودة إلى أسعار نفط في صالحها، وكذلك إعادة بناء مخزوناتها الاستراتيجية.
الدول النامية المستهلكة للنفط، تعاني من استمرار أزمة الطاقة، في ظل استمرار ارتفاع سعر النفط بالسوق الدولية، مما يجعل وضعها المالي مأزومًا بشكل أكبر مما هو عليه. ومما يزيد من أزمة تلك الدول أنها تجمع بين كل سلبيات الحرب الروسية على أوكرانيا، من التضخم والدولار القوي، والتقلبات المستمرة في السوق الدولية لكل السلع، فضلًا عن أن هذه الدول ليس لديها ما يحميها من قبيل المخزونات الاستراتيجية من النفط.
ومن صالح هذه الدول، أن تنقشع أزمة الطاقة في أقرب وقت، وكذلك تراجع الأسباب التي أدت إليها، حتى تتمكن من تخفيف أعبائها المالية، المتمثلة في عجز موازين مدفوعاتها، وكذلك مديونياتها العامة.
في الختام، سننتظر ونرى، ماذا سيفعل الكبار.